إصدار جديد
الأدب بين الإمتاع والالتزام
صدر مؤخرا كتاب الأدب بين الإمتاع والالتزام للدكتور الحسن الغشتول، عن دار النفائس في بيروت
يوسف خليل السباعي
..
ويتألف هذا العمل من جملة من المباحث النقدية النظرية والتطبيقية والدراسات المتعلقة برسالة الأديب ووظيفة النقد المتجلية في الكشف عن الأسرار الجمالية للأدب. وينقسم إلى أربعة مباحث، المبحث الأول عن الحكي المشترك والمؤتلف في النثر والشعر، والمبحث الثاني عن تعدد الألسن ومسألة التواصل، والمبحث الثالث عن الآفاق الأدبية في الفكر والتاريخ، أما المبحث الرابع فيأخذ طابعا تركيبيا، وهو عن الأدب والطريق إلى فكر تربوي جديد
.
أما الآثار الأدبية التي انكب عليها الدرس والتحليل، فهي لكتاب عرب يملكون حسا مشتركا ونبضا موحدا حتى وإن كانوا ينتمون إلى جغرافيات متنوعة, وتحركهم نوازع متفردة مشفوعة بحسهم الاجتماعي وطبيعة عمرانهم وخصوصية ذوقهم. في المؤلف دراسة لأعمال إبداعية: للعروي في أوراقه، ولمحمود درويش في إحدى محكياته الشعرية في نموذج أحمد الزعتر، ولغازي العبادي في مجموعة المطاف، ومبارك ربيع في الريح الشتوية، ولمحمد أنقار في مجموعة مؤنس العليل ورواية المصري، فضلا عن موازنات نقدية بين أعمال نقدية وإبداعية من صميم عطاء منتدى تطوان للسرد الأدبي
.
ويركز الكاتب في مؤلفه هذا الذي ينتصر لرسالية الأدب ولجماليته في آن واحد، على مسألة الوصال الجدلي بين تدفق الإبداع وغريزة التفكير النقدي في أثر الأديب, ويعد ذلك سرا من أسرار انكباب الجمهور الراقي على أعمال بعينها. فمن شأن الحركة الذهنية الحرة والمسددة أن تعين المبدع على اقتحام مسافات وعوالم فريدة وخارقة، ومن شأن الكتابة الجديدة أن تكون استجابة واعية ودافعا قويا لاستثارة الحلم والخيال مع التفكير والتفكر حسب ما يقتضيه الذوق, وتدعو إليه حاسة الفن. أي لعلها تكون قائدة بعمقها الحواري وسرية حكيها إلى مرافئ جديدة
.
مقتطفات من المؤلف
.
يقول الكاتب في مقدمة مؤلفه
إذا كانت رسالة الأديب رسالة حضارية متكاملة, وجب إعداد الأجيال الناشئة لتحمل مشعل النهضة, بروح متجددة انطلاقا من التماس الكثير من وشائج القربى بين الأدب وقوى الفعل الاختياري لإنسان المستقبل, أو بالأحرى أقول إن الأدب يعين على استخراج طاقات التوجه بأفعال سامية تقرب هذا الإنسان من إنسانيته, وتنأى به عن مصاف كائنات مروضة, أو آلات خالية من الحس والضمير. إن الأدب الذي أتحدث عنه جزء لا يتجزأ من منظومة كبرى, تقوم على استشعار الجمال, والدعوة إليه مع التأهب الدائم للاستماع إلى الأصوات المغايرة والمنافرة. ذلك هو أدب الحياة المتجددة باستمرار, والمحافظة في الوقت نفسه على جوهرها الثابت في كل جغرافيات الكون. وتلك هي مهمة الأديب الذي يعانق ظلال الفن بنفس مرهف ويخاطب القراء بلغة تملك من خيال التصوير وبهاء العبارة ما يحملهم على تصديقه أو التأثر بدعوته. أما صرف النظر عن لبوس الأدب الفني وجعل رسالته رسالة مضمون مجردة, فذلك من القصور في الرأي والتسرع في الحكم, لا سيما أن الكتابة التي لها لذة الوقع وقوة التأثير هي التي تتفرد بلغتها المختلفة عن لغة التواصل المباشر. لذلك كان الأدب أحوج ما يكون إلى نقد يواكبه, ويرسم أمام قارئه الطريق من أجل التفكير في مسارات قرائية ممكنة ومحتملة. ولعل الأدب الحقيقي هو المهيأ دون غيره للنقد الرفيع, ما دام الأديب الكبير يضمر في أدبه ناقدا مفترضا مخصوصا
.
ويشير الكتاب في إطار دراسة رواية المصري لأنقار إلى أن
طموح الساحلي أمام تفريط الصويري يظل نجاحا بامتياز, يقول وحسبه أن يغذي فكره ويلهب حسه في المراقي الأولى أي ضمن تجربة نصطلح عليها << صفوة الفرائد>>, بزاد ثقافي ونفس حكائي ذي نكهة شرقية. ذاك ما يرسخ في ذهننا عندما يلوح بمبتغاه في أن يكتب قصة بإيحاء مصري, حتى وإن تذرع في ذلك بشخصية الصويري.
لم يكن الصويري هذا سوى محرك لهمته, أما الباعث في ذلك فالشاهد عليه نصي ولا شك, ولعله يكمن في الحوار الذي دار بين الرجلين عن صفوة الفرائد, أو ما أضمره الكاتب بسليقته الحكائية في <<العصر>> في ثنايا الحديث عن الفروقات الفردية التي جعلها الساحلي أعظم اكتشافات العلم في التاريخ الإنساني. يؤذن الحوار بنشوء بوادر الاستقلال والتفرد في نظرة الساحلي إلى الأشياء. ولعلنا نلمس ذلك في تحديه المغلف بالطيبة, أوفي كدره الذي يطول ثم ينهار بفعل جلال الصداقة, حيث ما لبثنا أن رأينا انفكاكا عن صاحب الذكرى الذي يموت. وحتى نقترب من سياق النص أكثر, نقول إن انتصار الساحلي للفرد بدل الجماعة, دعا صاحبه عبد الكريم إلى أن يبدي تجاهه نوعا من الاستخفاف على الرغم مما أعقب ذلك من اعتذار خفي يحمله كلام يدل على اللطف ويوسع في الوقت نفسه من دائرة الاختلاف بين الرجلين. لكن مهما توسعت هذه الدائرة فقد بقيت محافظة على شكلها الانسيابي الذي يعلو على كل مظاهر المنافرة أو التوتر التي تقتضيها ضرورات الحوار. بل كيف يكون الحوار مثمرا وممتعا ما لم ينطو على آراء يكمل بعضها بعضا, وما لم يكن جزء من البراهين القولية حاملا لإمكان النسخ والإضافة والتوليد. هذه الخصوصية البرهانية ذات الجذوة الخفية هي السقف الذي أظل الشخصيتين على الرغم من فوارقهما, فكانتا بحق شخصيتين متأهبتين للاختلاف في مواقف كثيرة, فمن ذلك أن الواحد منهما ينظر إلى الانتقال المثير من الوعي إلى الخبل نظرة اجتماعية, والآخر يغوص في أسرارها الجمالية وأبعادها المتوارية عن الحس, حيث يظل الساحلي في هذا المقام وفيا لفردانيته, غير آبه باستخفاف زميله, غير أنهما يجعلان بعد ذلك من فكرة التدرج زادا مشتركا أو منطلقا للإحاطة بطبيعة ذلك الانتقال المثير, وكأنهما يصممان دائما على التحليق في سماء واحدة. غير أن التدرج في دنيا عبد الكريم يقود إلى الإقرار بهيمنة قيم الدناءة والإذاية والإزراء وما شاكلها من أفعال اللمز وأشكال الشتيمة في المجتمع الذي يمارس العنف المنظم
ويقول الكاتب في مقام آخر عن ديوان ليس إلا للشاعرة زهرة زيراوي والقصيدة الموسومة بالعنوان ذاته
ألفيت فيهما معا حركة أو إرادة من أجل الصعود إلى الأعلى, وفي الوقت نفسه وجدت انجذابا إلى الأسفل. لمست تراوحا وصراعا بين قوتين, قوة الذات التي تتمثل في الإصرار على المضي قدما, وقوة خارجية تسعى إلى نسف كل شيء جميل لتجهز على كل أمل, فالقناص يحتجز الأفق ليحفل العالم بالرماد. والإشارة إلى ما يحفل به العالم في هذا الصدد إشارة على سبيل التهكم التراجيدي في نظري..إشارة تجسد عمق الكارثة التي رزئ بها الكون الحيوي الموصول والمتقدم إلى الأمام في غمرة استيئاس شامل. إنه العمق الكارثي الذي يصيب الأنا, فيختلط لون الصفاء بما يعكره. بل يتبدد بالحرائق
وفي سياق إحالته على آراء للفيلسوف المغربي د. طه عبد الرحمن يقول
ليست المدن في عصرنا مدنا فاضلة, وليس الناس جميعهم على حالة سوية من الناحية الخلقية, وليست الجماعات منزهة عن الانقياد إلى شهوة البطش والتحكم, أو الترفع عن غلواء الجحود والتعصب, فحيثما استعمل العقل عندها بنزوة وهوى, عدمت قدرتها على التذوق الأمثل لكل ما يستثير حاسة الفن, وعلى التفاعل الأنجع مع الأصوات المميزة عنها, فما أصغت إلا إلى صوتها وما تراءت لها في مرايا غيرها إلا ذاتها ملبسة ومقنَّعة بالهواجس والأوهام؛ فهي لا تبذل ولو جهدا بسيطا من أجل الدنو من هذا الغير الذي تحتاج إليه, بمثل ما يحتاج إليها. لهذا فإن استخدام العقل على نحو مّا, هو الذي يكون مسؤولا عن طبيعة ذلك العقل نفسه, من غير أن يدل هذا على أن العقل ما هو إلا فرص تجريبية تتحقق في الواقع, ودون أن يوحي هذا إطلاقا بأن الإقرار بوجود عقل متعال لا تجمعه وشيجة إلى عالم الحس والخبرة المادية. فلا يستقيم النظر إلى العقل مشيئا, بمثل ما لا يسوغ أن يُسمح بمناقضة القيم الأخلاقية في سبيل تطرف مناف لجوهر الدين
هذه نظرة مجملة عن هذا المؤلف الذي يستحضر ثنائية الإمتاع والالتزام في الأدب ويعمد إلى الاستفادة من أسس النقد الحديث والاستئناس بنماذج أدبية في العالم العربي عامة والمغرب خاصة، ويقدم بذلك تصورا خاصا للأدب الذي يفترض أن ينصهر فيه الأفق المعرفي بمختلف القيم الوجدانية والروحية للإنسان في خضم تفاعلاته الحياتية الجديدة
0 Comments:
Post a Comment