الجمعة، ماي 25، 2007

بنزكري ينحت للملك
صورة جميلة

أحمد الخمسي

تحول اسم ادريس بنزكري بمجرد انتشار نبأ الوفاة إلى سحابة تنشر ظلالها شيئا فشيئا وأوسع فأوسع. وكأنها قطرات خير بعد جفاف طال أمده. فقد عقدت أحزاب مؤتمراتها في نفس اليوم الذي توفي فيه بنزكري ولم يسمع عنها الناس كما سمعنا عن ادريس بنزكري في الأيام الموالية.

ما السر في غلبة شخص على أحزاب بعينها؟

أولا، هناك نوعية الشخص. وهو عينة من أبناء الشعب الذين قرروا ذات يوم أن يضعوا حياتهم، بكيفية سلمية، في الميزان، مقابل حفظ كرامتهم. فمنذ السبعينات، قرر جيل من المغاربة أن يعيدوا صهر المعدن المغربي بما يلائم حضور المغرب في العصر بكيفية متينة ولا لبس فيها. كان ذلك عبر الاصطفاف بجانب الشعب وهو الكنز الذي تلجأ إليه الدولة لحفظ السيادة ولتجديد الشرعية ولتكييف التوازنات.
فعبر الإضراب عن الطعام، كرس رفاق ادريس بنزكري انتماء المغاربة لمدرسة حقوق الانسان المتعارف عليها عالميا. وبين انطلاق الاضرابات الحقوقية من داخل السجون، وبين تكريس المبدأ في الديباجة من داخل الدستور، مر ربع قرن. لكن أحدا لم يعب عن الدولة شجاعة الاعتراف الدستوري بحقوق الانسان المتعارف عليها عالميا. مما أنقذ الجسد السياسي المغربي من سموم الإفراط في الخصوصية. بل فتح نفسية الناس على تقبل الاختيارات الرسمية المتعارف عليها عالميا في المجالات الطبقية الأخرى مثل السياحة الدولية والانفتاح على اللغات وحوار الحضارات وتلاقح الثقافات....ولو بقي مغاربة مهملين تحت عتبة الفقر في أحزمة ومناطق موروثة عن سياسة المغرب غير النافع.

وفاة بنزكري، إذن، أزهرت في حقل الصحافة طيلة الأسبوع. وكانت ألوان القيم زاهية. نعم، غاب عنا خلال الأشهر الإثنى عشر الماضية من أمثاله عدد لا يستهان به. بل من الذين رافقوه في زنازن السجن المركزي (مصطفى الخطابي...). أو من اللواتي أتت بعد جيله ( ليلى اعبابو، الزاهية.....)
فليس من الغريب في ثقافتنا السياسية أن يجدد أبناء الشعب أفكارهم وأساليبهم واستراتيجياتهم من أجل نقل قدراتهم الفردية من حفظ العقل والنفس والمال والعرض وووووو على الصعيد الفردي إلى حفظ كيان الأمة...

لكن جيل بنزكري، وإن اختلف مع الدولة في سبعينات الحرب الباردة، فقد التقى مرة أخرى مع الدولة منذ مطلع القرن الحالي... بعدما هيأت أحزاب الحركة الوطنية الأرضية للتصالح منذ 1996.

غير أن جيل ادريس بنزكري نفسه، للحفاظ على نفسه وبذور أفكاره على طول جذع شجرة الكيان السياسي المغربي، منقسم على نفسه. تارة طوعا بالوعي الاستراتيجي وتوزيع المهام. وتارة كرها عبر الوعي الشقي بالزهد أو بالنهم.

ثانيا، هناك توجه الدولة.
هل نرى اليوم أمامنا محمدا سادسا نفسه الذي ورث العرش في الأسبوع الأخير من يوليوز 1999؟ أبدا. وإن منه بقيت باقية. كيف إذن؟
ترك لنا الحسن الثاني عرشا ووارثا للعرش وفق الدستور الذي ما زال مفروضا من الطبقة السياسية على الدولة والمجتمع. لكن وارث العرش، ضمن التركة الاستراتيجية التي وضعها الحسن الثاني للمغرب، ورث من أبيه الحرص الاستراتيجي على العرش والدولة وارتباط المجتمع بالدولة.
وباعتبار الشعب هو منتج الخيرات والقدرات المتوفرة في الدولة والاقتصاد، في انتظار أن يصبح منتجا للسياسة العامة عبر المؤسسات، فالأسرة الحاكمة ووارث العرش من صلب الشعب. وكما يكون الشعب يولى عليه ولي أمره.
غير أن الإفراط في استعمال القوة من طرف الدولة لضبط اختيارات المجتمع في عهد الراحل الحسن الثاني، ولدت إحساسا بضرورة فتح آفاق التكامل بين الدولة والمجتمع، بعدما استخلص الطرفان (الدولة والمجتمع) أن الحالة القائمة ما زالت استثنائية. وهي تبعية المجتمع للدولة، بناء على حيثيات لم تعد قائمة. وهي أن الشائع الذي انتشر طيلة عشر سنوات، بتكريس من سلوك الدولة نفسها، هو أن المجتمع نظر في الأفق إلى "الاختيار الثوري" (1962-1973).

وبالنظر إلى تملك الدولة الوعي بالعلوم السياسية الحديثة التي تشتغل بقاموس بناء الشرعيات والقدرات والتوازنات حجرا حجرا، قبل أن يبدو مؤسسة مؤسسة...فقد انطلق محمد السادس عبر المشاريع السياسية والاقتصادية والدبلوماسية والاجتماعية....وضمن أساليب التجديد انطلق في تجديد متدرج للحلقات النخبوية الدائرة به دائرة دائرة....فإذا كان أفلاطون في محاوراته القديمة، قد ميز بين الملك والمهندس ووزع الوظائف والأدوار وفق مقتضيات القيادة أو التقييم....فعلى المستوى المركزي الضيق، عملت دولة محمد السادس على بناء نخبة العهد الجديد المركزية. مستوعبة لآليات العولمة. ومستفيدة من دروس الحرب الباردة. لكنها ما زالت تتأمل احتمالات المستقبل. بكل ما يتلبد به الفضاء الأعلى العالمي من سحب الحروب والتيارات والانشغالات.

نعود الآن للارتباط الحاصل بين الدولة واليسار عموما واليسار السبعيني على الخصوص. لنتأمل الصورة الجميلة التي ساهم بها اليسار السبعيني للملك ومآل الصور إذا تأخر صنع المؤسسات.

يستسمحني صلاح الوديع في أن أفشي سرا، إن كان بعد ما زال سرا. وهو النص الذي كتبه حول سلالات الخيانة....بمعنى استعاري مؤلم. أنا عندما طلبت منه أن أطلع على كلماته، تمنيت عليه ألا يكون مبكيا مدميا للجروح القديمة المستديمة. فرد أنه لا يضمن ذلك.
وعندما خاض ادريس بنزكري تجربة مشتركة مع الدولة لطي صفحة الماضي، تلقى جزءا لا بأس به من ردود الفعل المتأصلة في الشعور الشعبي. وهي متأصلة بفعل دأب الطبقة السياسية المغربية على اتباع الأساليب القديمة في استثمار المواقع بدل تأصيل القيم، تركز على امتصاص المنافع.

والحال القديم في سلوك الدولة التي استمرت في تدبير "العطب المغربي" (عثمان اشقرا) منذ الاحتلال العثماني للمنطقة العربية (بداية القرن 16)، كان استهلاك طاقة المجتمع في إشعال تناقضاته لإخماد احتمالات الثورة. فتمادت في منع تداول الفلسفة بين العامة (السلطان محمد بن عبد الله) ودبرت توزيع الثروة بين الخاصة عبر جدل التسمين والتتريك. ولم تصلح المراسيم والظهائر تقريبا لغير ميكانزمات ضبط هذا النوع من التوازنات.

إن تبني حرف تيفيناغ لأول مرة خرج عن هذا القصور الاستراتيجي في اتجاه التصالح مع العمق الانتروبولوجي للكيان. كما يتجه مشروع الحكم الذاتي نحو الأفق المطلوب لتلعب الدولة رهانات النموذج في تجديد أسس وبنيات الحداثة والديمقراطية.

لكن، تسويق القرار والبرنامج لم يكن ممكنا لولا أمثال الراحل ادريس بنزكري. لأن الشك ليس فقط، كما قال الفيلسوف المذكور، ألان، ملح العقل، بل أصبح ثابتا من ثوابت العلاقة بين الدولة الطبقية التقليدية والشعب. فالاقتراع العام هو الأداة التي سكتها الليبرالية للتخلص من ترهل نخب الرأسمالية ومن الانتهازية الكامنة تحت جناح كل واحد منا.

ووفاة ادريس ابنزكري حجة أخرى للملك على مد يد الشعب للعرش للاحتفاظ به سقفا سياسيا للكيان. لكن العروش الحديثة المرتبطة بالشعوب وبالعصر وبالمستقبل، لا تقف عند القدرات البشرية المتوفرة. لأن أمد الحياة السياسي لكل فرد مهما علا موقعه لا يمكن أن يلغي قوانين العطاء البشري وحتمية استنفادها. بل أقبلت على توازنات مكنتها من موقع ثابت في الكيان السياسي.

فقد طوى الإسبان عهد فرنكو. لكن الديمقراطية احتفظت لآل البوربون بعرش اسبانيا. وهو ما لم يمنع من حضور ملك حكيم جرئ شجاع زاهد في السلطة الرئاسية، مكتف بملكية برلمانية ونظام شبه فيديرالي ديمقراطي حداثي مثل خوان كارلوس الطيب. لقد قبل صلاح الوديع وأمثاله أن يوصفوا بالنزوع اليميني ضمن اليسار من أجل بناء علاقة مختلفة بين الملك والشعب.

لكن تحويل الشك من زقوم في حلقوم الدولة والشعب معا، إلى ملح العقل، يقتضي بناء مؤسسات تزن الثقة بين الطرفين بميزان الذهب. ولا ميزان للذهب في الشأن العام سوى حكم صندوق الاقتراع العام.

وبذلك تتحول دينامية القناعات إلى توافقات متجددة باستمرار بدل تكريس الجمود العقائدي عملة رديئة لتكريس التيار "الرديئالي" على حافتي اليمين واليسار على حد سواء.

فهل ترد الملكية للشعب صنيعه ببناء مؤسسات تستديم بموجبها الصور الجميلة للملك ولادريس بنزكري لماعة في ضمير الشعب؟

0 Comments: