الاثنين، أكتوبر 13، 2008



صدر ديوان محمود درويش( كزهر اللوز أو أبعد) عام 2005، كان ديوانه الأسبق
(لا تعتذر عما فعلت) قد أدخله مرحلة أكثر هدوءا واسترسالا، ولعله شجع دارسيه على عدّه بداية دخوله مصالحة غير معلنة مع قصيدة النثر ستؤكده قصائد (أثر الفراشة) أيضا، لكن الرهان على نثرية الخطاب الشعري لدرويش لا ترينا حقيقة جهده في الاشتغال الدؤوب على تكريس شعرية خاصة به، هي في حقيقتها الجوهرية مزيج من معرفة شديدة الخصوصية بالشعر الذي تفيء إليه قصائده، ووعي بمجافاة ما يدبّره الاندراج القطيعي وراء السياسي من فهرسة غير عادلة، ربما كان الخوف منها وراء صرخته المبكرة: أنقذونا من هذا الحب القاسي، وكان دافعا لبحثه عن صوت خاص وسط جوقة شعرية تصطف خلف شعارات ونيّات ومشاعر تبرر بها ضعفها واجترارها لما ليس شعريا ممالأة لجمهور متخيل ككتلة تستقبل ما تتركه هيجانات الشعر من أثر، ولا تميز ما تفرزه قراءة القصيدة من دلالات.كان درويش قد اجتاز بقدرة مميزة ذلك الخانق الخطر بين السياسي والشعري، وأصبح منذ عقود ذا رؤية ذاتية تتكيف فنيا داخل قصائده لتترك ملمحا فارقا كالسّمة الشخصية أو اللمسة شديدة الأثر، فكانت قضية وطنه قضية شاعر لم يرضَ أن يكون مميزا بفضيلة اندراجه شاعر قضية فحسب، فكبرت به قضية وطنه المحتل والمُصادَر أرضا وهوية، ولم يتكئ عليها ليكبر، تلك أمثولة درويشية لم يتفحصها شعراء الإيديولوجيات المنبثقين بقوتها والموجودين بوجودها والذاهبين في عصفها وتقلباتها .
كان بمقدور قضية كبرى وعادلة كفلسطين وتداعياتها أن تلتهم شعرية درويش لو انه رضي بالسائد فكريا وشعريا، لكنه ظل حتى آخر قصائده يبحث عما يعطي الخصوصية المؤثرة ويهب التميز، معمّقا ما كان بدأه من صورية خيالية وسرد وسخرية وغنائية درامية وجرأة، ومن انقلاب حقيقي على مفاهيم القصيدة السياسية، وهذا يفسر شكواه الأخيرة من طلبات المتلقين السياسيين نقادا وقراء: واختياره أن يصوغ المعادلة كما توفر له رؤياه من أفق، وكثيرا ما شكا بسبب ذلك من سوء الفهم والظن، و من القراءة (الوطنية) السطحية لقصائده، تلك القراءة التي تريد ردود أفعال سريعة وتسميات واضحة وتعليقات مباشرة لا مكان لها كلها في تجربة درويش ومنظوره للشعر:
فإذا مشيت على طريق جانبي شاردا
قالوا: لقد خان الطريق
وإن عثرت على بلاغة عشبة
قالوا :تخلى عن عناد السنديان
..وإن رأيت الورد أصفر في الربيع
تساءلوا: أين الدم الوطني في أوراقه؟
ولكن رد درويش دوما هو التمسك برؤياه حتى النهاية: تلك التي أدركها مبكرا، وعمّقها بما هو خاص: رؤيةً وبناء.
في ديوان (كزهر اللوز أو أبعد) إشارات كثيرة تومئ إلى تلك الخصوصية في أبنية القصائد وأسلوبية كتابتها بدءا من العنوان الذي يقوم على التشبيه ثم العطف بما هو غير نسقي، فالكاف التي تفتتح العنوان تسحب القراءة إلى المشبه المحذوف: الشيء الذي هو مثل زهر اللوز، وتدع التأويل منفتحا على احتمالات عدة، ثم يأتي العطف ليضيف انزياحا دلاليا مهما، فالأبعد غير منسوب هنا لمسافة بل لشيء غامض مشبه بزهر اللوز فيكون البعد مرادفا للعمق في الوصف أو التشبيه.
أما المفتتح المقتبس من التوحيدي في (الإمتاع والمؤانسة) فيهيئ القارئ لما قلنا إنه تشجيع لقراءة نثرية لشعر درويش وإنْ لم يكتب قصيدة النثر مباشرة أو باسمها ووصفها المتواطأ عليه .
إن تصدير درويش لقصائد الديوان بقول التوحيدي(أحسنُ الكلام ما.. قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم) يجب ألا يأخذ القراءة بعيدا لاستجلاء مظاهر النثري كوجود منفصل يمكن عدّ قصيدة النثر إحدى تشكلاته -. ولكن التصدير يشجع القراءة على متابعة النثري في ظواهر أسلوبية شدّد عليها درويش في قصائده وبلورها هنا بكيفيات نحاول التنبيه على أبرزها وأكثرها ترددا.فأدوات النظم - إذا تبعنا تقسيم التوحيدي المؤمّن عليه بمقتبس درويش ـ حاضرة بقوة، ومن أبرزها التقفية والوزنية الواضحة.
وفي عودة إلى هيكلية الديوان وتنضيد مفرداته ـ القصائد- سنرى ان عناوين القصائد تأخذ تسمياتها من المطالع أو الكلمات التي تستهل بها، باستثناءات قليلة (طباق المهداة إلى إدوارد سعيد) ومنفى3.. وهذا التكنيك في العنونة يرتاح إليه درويش ويضع القصيدة ومدخلها والعنوان في نسيج بنائي واحد، وهو ما اعتاد عليه الشاعر في دواوين سابقة، وقد أشرنا في حينها إلى المرجع الملحمي لهذه التقنية العنوانية، فالملاحم لم تكن تعرف بعنوان مستقل بل يطلق عليها الاسم من بعد، فكانت تعرف بمطلعها الاستهلالي، مثل: هو الذي رأى، وعندما في العلا، فالعنونة الغائبة ذات دلالة أبلغ من التعيين بالعنوان وتوجيه المعاينة البصرية لاتجاه تفسير واحد لا يهب فرصة التأويل ومتعة التخيل، العناوين الغفل إلا من مفتتح النص نفسه تقود إلى استكناه كلّية الخطاب المولّد لها، وشمولية الحالة المعبَّر عنها، فتغدو العناوين المغيَّبة كما قال الفنان شاكر حسن آل سعيد في مناسبة مشابهة لا تمثل في عملية التفسير سوى الأسلوب الفني نفسه.
ثمة عناوين ثانوية تمثل أقسام الديوان أو أجزاءه التي تحتوي القصائد، وهي في الأغلب ضمائر العائدية نحويا ( أنا، أنت، هو، هي) وفي تناوبها أو تتابعها دلالة إذا عمدنا إلى الإحصاء، فتحت مجموعة (أنت) التي يبدأ بها الديوان (5 قصائد) وهو(5) وأنا(9) وهي (11)ولكن تفوق ضمير الغائب المؤنثة عدديا لا يعني حضورها الأشد قياسا للضمائر الأخرى، بل هي جزء من توزيع صوت السارد على الآخرين، لأن (هي) لا تعني صوت المرأة بل صورتها وحضورها عبر السارد نفسه الذي ينوب عنها:
لا أنام لأحلم - قالت له
بل أنام لأنساكَ
......................
هي لا تحبك أنت
يعجبها مجازك
أنت شاعرها
وهذا كل ما في الأمر
هذا الموقع السردي للشاعر إذن هو جزء من النثرية التي يدعونا إليها في الشعر ليكون من أحسن الكلام بحسب مقترح التوحيدي المقتبس قي الديوان.
ولكن الحوار هو التقنية السردية الأكثر حضورا في القصائد، دوما يستبطن درويش الآخر ويحاوره غائبا أو حاضرا، فضلا على الحوار الداخلي حين يتجه الحديث إلى الداخل لابشكل تقريري بل بحوار يطرح الاحتمالات ويتبسط مع النفس أيضا، وتصل النزعة الحوارية التي هي من معالم ديمقراطية القصيدة الحديثة وأفقها الحر الذي يرى الآخر ويستقدمه إلى النص ،إلى حد بناء نص كامل (هو /هي) على الحوار بالطريقة المسرحية التي تنبه إلى المتحدث:
هي: هل عرفت الحب يوما؟
هو:عندما يأتي الشتاء يمسني
شغف بشيء غائب، أضفي عليه
الاسم، أيّ اسم، وأنسى..
وتستمر الحوارية بالطريقة ذاتها، فيما تعتمد قصائد أخرى على أسلوب الراوي، قالت / قال...
قال لها: ليتني كنت أصغر..
قالت له:سوف اكبر ليلا كرائحة
الياسمينة في الصيفِ
ثم أضافت: وأنت ستصغر حين
تنام، فكل النيام صغار..
و يمكن مراجعة قصيدة ( ضباب كثيف على الجسر) كمثال آخر على قيام النص كله على الحوار( قال لي صاحبي..) وقصيدة ( هو لا غيره)..
................................................
أو الحوار الاستطرادي الذي يأتي في ثنايا التداعيات :

سأوقظ موتاي: نحن سواسية أيها
النائمون، أما زلتمُ مثلنا تحلمون
بيوم القيامة..
والحوار الداخلي الذي يستبطن الأحاسيس والانفعالات ويرصدها عبر الكتابة أو تقاطعا معها في ما يشبه الحضور الميتانصي أي الظهور اللغوي لما لا يقال في النص كمتن من تعليقات أو احتمالات يعمد الشاعر أحيانا لتقويسها أو بين هياتها كجمل اعتراضية بخطي الاعتراض، لكي يحس القارئ بتعارضها النصي مع المتن:
- تلك آثارنا- قال من كنته..
هاهنا يلتقي زمنان، ويفترقان، فمن
أنت في حضرة ((الآن))؟
.........................
قلت لنفسي الغريبة في الظل:
هل هذه بابل أم سدوم؟
لقد اتخذنا من بنية الحوار مثالا مطولا لاحتمال النثرية الملمح إليها في الاقتباس التصديري لكون الحوارية تقصي الغنائية التي شخصت في شعر درويش رغم وصفها بالدرامية التي طورت لتكون بنية بديلة أو مستقلة عنها.
هذا بجانب الحوار الذاتي المقوس أو المندرج في البنية النصية:
(لا أنا أو هو ولكنه قارئ يتساءل عما
يقول لنا الشعر في زمن الكارثة).
ولا نزال نتفحص احتمالات النثرية التي تسهم في صياغة الألم في قصائد الديوان، فنذهب إلى التفاصيل التي عني بها الشاعر بشدة وتشديد واضحين، لقد قامت كثير من النصوص على جمع التفاصيل ولمّها في نسيج نصي واحد وربطها بذكاء وشاعرية لينفذ أثرها في المتلقي، وكثيرا ما كانت البدايات الاستهلالية للقصائد تقوم على مراكمة التفاصيل التي يهبها الانتظام النصي ووجودها الجديد في القصيدة دلالات شعرية لا تعود معها ذات معان عادية كما كانت قبل اقتراضها في النص:
مقهى، وأنت مع الجريدة جالس
لا، لست وحدك، نصفُ كأس فارغٌ
والشمس تملأ نصفها الثاني
ومن خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين
ولا تُرى.........
وربما انبنى جزء أكبر من النص على التداعيات الجزئية المجموعة من التفاصيل العادية كقصيدة (فراغ فسيح):
فراغ فسيح .نحاس.عصافير حنطية
اللون.صفصافة.كسل.أفق مهمل.
كالحكايا الكبيرة. أرض مجعدة الوجه.
صيف كثير التثاؤب كالكلب في ظل
زيتونة يابس.عرق في الحجارة.
شمس عمودية.
وهكذا تستمر القصيدة حتى نهايتها باستثناء ثلاثة أبيات تمثل الخاتمة أو النتيجة . ويجدر بنا التنبيه هنا إلى تعمد درويش الفصل بين الكسر أو الجزئيات بنقطة، تدل ترقيما كما نعلم على انتهاء الجملة نحويا ودلالياً، لكنها مرتبطة عضويا بما يليها، فكأنه بهذا الإيحاء بالانتهاء يؤكد ملمح التجميع لهذه التفاصيل.
ولكن التكرار يمثل بنية نصية دالة في الديوان ويتشكل بهيئات عدة مما يستوجب دراسة منفصلة، لكنني سأكتفي بالإشارة إلى كيفيات من التكرار وأشكال تكررت لتعني التوكيد دلاليا، ولتضفي هيئة جمالية خاصة فنيا، وهي تقرب النصوص من النثرية المقترحة لتهدئة هيجانات اللغة والصور وغنائية الخطاب الشعري عامة.
من ذلك قيام هيكل النص على تناظر يقسم القصيدة إلى نصفين بتكرار صيغة واحدة خبريةعلى اليمين تتابع عموديا لتقابلها صيغة التعليق على اليسار وتتابع كذلك،
(قصيدة: فكر بغيرك) بأكملها:
وأنت تعد فطورك، فكر بغيرك
(لا تنس قوت الحمام)
وأنت تخوض حروبك، فكر بغيرك
(لا تنس من يطلبون السلام)
ومثلها قصيدة (الجميلات هن الجميلات) التي تقوم كلها على تقنية مشابهة:
الجميلات هن الجميلات
(نقش الكمنجات في الخاصرة)
الجميلات هن الضعيفات
(عرش طفيف بلا ذاكرة)...
وثمة تكرار تركيبي أي أنه يستمد وجوده البلاغي من تكرار عبارات وصيغ بهيئات مختلفة لتخلق عنصر التكرار الأكبر،ولهذا النوع تصلح قصيدة (حين تطيل التأمل ) نموذجا:
فهي مكونة من أربعة مقاطع مفصولة ببياض، يبدأ كل منها بكلمة (حين) وتأتي بعدها أفعال، تطيل/ ترافق/ تعد/تسير) وتنتهي مختومة بسطرها الرابع نهاية لونية تتكرر مع كلمة قلبك (يخضر/يحمر/يبيض/يصفر) فيخلق الشاعر الدلالة بالبنية الرباعية وتكرار الزمن ( حين ) والهيئة الفعلية التالية له ثم بالنهاية اللونية ..
ويقوم التكرار على تردد مفردة يبدأ بها الشاعر جملة شعرية ليعيدها في ثنايا النص مستأنفا صورة أخرى حتى النهاية (قصيدة: يد تنشر الصحو):
يد تنشر الصحو أبيض، تسهر
تنهى وتأمر...يد تكسر اللازورد..
.يد تتعالى..يد تسكب
البرق في قدح الشاي...يد تتذكر..
فيما تقوم قصائد أخرى على ختام المقطع بكلمة واحدة تتكرر في النهاية (قصيدة إن مشيت على شارع):
إن مشيت على شارع لا يؤدي إلى هاوية
فقل لمن يجمعون القمامة: شكرا!
إن رجعت إلى البيت حيا، كما ترجع القافية
بل خلل، قل لنفسك: شكرا!
فتقوم الكلمة بدور اللازمة مؤدية وظيفة إيقاعية ودلالية في الوقت نفسه، مع ملاحظة التلازم الشرطي في بنية الجملة الشعرية، أعني قيام النص على جملة شرطية في البدء(إن..) والختام بجواب شرط واحد (فقل..شكرا)، وهو أسلوب بنائي اعتمده درويش لا بالشرط وجوابه فحسب، بل بالجمل الخبرية في نص (الجميلات..) أو الاستئناف بجمل طلبية (قصيدة: فكر بغيرك).
لقد توقفت دراستنا هذه عند وصف الظواهر الأسلوبية لا لتنحاز إلى المقترح أو المدخل الأسلوبي في قراءة الشعر، بل لتتواءم مع الملفوظ النصي لدرويش في ديوان ( كزهر اللوز أو أبعد) لتأكيد المنحى النثري في خطابه الشعري ولكن بكيفيات خاصة أولا، ولترسيخ ملامح وسمات لها تمركز شديد في أسلوبه ورؤياه وهو يسهم في صياغة الألم وتوصيله، لعل أبرزها السرد بتنوعاته الحوارية والتسميات والشخصيات والعناية بالزمن والمكان ،والسخرية التي اقترح درويش مرارا أن يقرأه الدارسون بهديها والعناية بالتناصي لحيث نجد لها كيفيات نصية ووظائف تستحق دراسة مستقلة مطولة، والاهتمام بالتفاصيل المقصودة لبناء هرم النص من تجاورها أو تعارضاتها الدلالية.
لقد حاولت أن أكون موضوعيا متجنبا الرثاء التقليدي الفج في مقام استذكار الشاعر الراحل/ الحاضر محمود درويش، فليس الموت هو المناسبة الوحيــــدة لقراءة شعره، رغم كونه ـ أعني الموت- واقعة مكتنزة بالدراماتيــــكية كلحظة مصيرية أو قدرية استبق درويش حصولها ليتمثلها ويتأملها طويلا، فآثرت أن أدرس ملفوظه النصي، لكنني وأنا أختم عجلا لم أستطع منع نفسي من التعبير عن الخسارة الكبيرة التي أصابت اللحظة الشعرية القائمة التي هي بحاجة لمشروع درويش كمخرج من مخارج أزمتها ولإنجاز الوعد الذي كان يمثله درويش بوعيه وجرأته ومقدرته، على لائحة الحداثة الشعرية العربية.

0 Comments: