الأربعاء، أكتوبر 08، 2008

ملف محمـــــود درويـــــــش


انها مهمة سهلة بقدر ما هي عسيرة، ان تختار نصوصا شعرية لمحمود درويش من مختلف مراحل العمر وأطوار التجربة، سهلة، لأن شبه الاجماع النقدي والاجماع الشعبي على الجودة يكفيك شرّ المغامرة بحيث تتوقف المسألة عند حدود الفهارس، وعسيرة لأن كل اختيار يقتضي تركا وبالتالي لا بد من الاحتكام الجمالي الى معيار ما، تساهم فيه واحيانا تفسده ذائقة من يتولى الاختيار إذ ينتدب نفسه وصيّا على الأجمل والأبهى والأبقى. آثرت هنا ان اختار نصوصا من المرحلة الثالثة لشعر محمود درويش، اذا صحّ مثل هذا التحقيب، فالمرحلتان الأولى والثانية تفرضان عليّ شروطا تاريخية وبعدا وثائقيا قد يكون له مقام آخر... وضمن سياق أشمل تضيق به صفحات محدودة في مقام احتفائي .
وحين اقترح صديقي الشاعر أمجد ناصر أن اختار نصوصا لمحمود درويش قلت له: ان مثل هذه المهمة نقدية بامتياز ولتكن مزدوجة بحيث نتولاها أمجد وأنا بعد أن تبرعم أول شقِيقة محمود ـ لا نعمان ـ على السّرير الصّخري الذي يسيل نعاس محمود من أهداب شاهدته .....

من كتاب 'في حضرة الغياب'

الحنينُ مسامرة الغائب للغائب، والتفات البعيد الى البعيد. الحنين عَطَشُ النبع الى حاملات الجرار، والعكس ايضا صحيح. الحنين يجرّ المسافة وراءً وراءً، كأنَّ التطلّع الى أمام، وقد سُميّ أملا، خاطرة شعرية ومغامرة. فعل المضارع حائر متردد، وفعل الماضي الناقص معلّق على سَروَةٍ وقفتْ خلف تلّة، على ساقها الراسخة، والتفّت بأخضرها الداكن، وأرهف السمع الى صوت واحد: صوت الريح، الحنين هو صوت الريح.
وكلّما توغّلت في وحدتك، كتلك الشجرة، أَخذك الحنين برفق أمومي إلى بلده المصنوع من موادّ شفّافة هشّة، فللحنين بلد وعائلة وذوق رفيع في تصفيف الأزهار البرية، وله زمن منتقى برعاية إلهية، زمن اسطوريّ هادىء يَنْضجُ فيه التين على مهل، وينام الظبّيُ الى جانب الذئب في خيال الولد الذي لم يشاهد مذبحة. ويطوف بك الحنين، كدليل جنة سياحي، في أنحاء بلاده، ويصعد بك إلى جبل كنت تأوي إليه وتتمرَّغُ في النباتات البرية، حتى تتشرب مسام جلدك برائحة الميرمية. الحنين هو الرائحة .
وللحنين فصل مُدلّل هو الشتاء، يولد من قطرات الماء الاولى على عشب يابس، فيصعِّد زفرات استغاثة أُنثوية، عطشى الى البلل. وَعْدٌ بزفاف كوني هو المطر. وعد بانفتاح المُغلق على جوهر، وحلول المطلق في ماهيّاتٍ....هو المطر.
كم من سنديانة هناك تَشرَئِبُّ الى اثنين: انت وهي، تركضان تحت المطر، بلا مظلّة ولا قبّعة، سعيدين بفضيحة شريفة، سعيدين بنصف عُرْي. تركضان ولا تعرفان الى أين، متحررين من الطريق ومن الهدف. تلهثان معاً من تعب لذيذ السبب. وتندسّان في جوف سنديانة ضيّق لا يتسع الاّ لواحد. فتلتصق بك وتلتصق بها حتى تصيرا اثنين في واحد. وَتعتصرك وتعتصرها فيسخن الماءُ عليكما وفيكما وتلهثان من الدفء، ولا تحتاج الشهوة إلى ذريعة المطر الذي أدخلكما الى مخدع السنديانة وانصرف. الحنين هو اختلاط النار في الماء.
وللحُمىّ صفة أخرى هي الحنين. في كل شتاء يوجعك فرح غائب، وتمشي تحت المطر واحداً في اثنين: أنت ومن كُنْتَهُ في شتاء آخر، فَتُفَتْفِتُ إلى نفسك كلاما لا تفهمه لعجز الذاكرة عن استعادة العاطفة السالفة، ولقدرة الحنين على اضفاء ما لم يكن على ما كان، كأن تصبح الشجرة غابة، والحجر حجلة، وكأن تكون سعيدا في زنزانة تراها أوسع من حديقة عامة، وكأن يكون الماضي واقفا في انتظارك غدا ككلب وفيّ. الحنين يكذب ولا يتعب من الكذب لأنه يكذب بصدق. كذب الحنين مهنة. والحنين شاعر محبط يعيد كتابة القصيدة الواحدة مئات المرات. وعجوز ما زال يحبو لأنه نسي حركة الزمن وتحاشى النظر في المرآة. الحنين هو التزوير البريء للوثائق لحماية مرجعية المنفيّ من الصدأ. وهو الكِلس الضروري لتلميع البيوت المهجورة.
لكن احدا لا يحنّ الى وجع أو هلع وجنازة. الحنين هو اختصاص الذاكرة في تجميل ما احتجب من المشهد، وترميم شُبّاك سقط دون أن يصل سقوطه الى الشارع. والحنين قَصاص المنفى من النفيّ، وخجل المنفيّ من الاعجاب بموسيقى منفى وحدائق ... فأن تحنّ يعني أن لا تغتبط بشيء هنا، الا على استحياء. لو كنتُ هناك ـ تقول ـ لو كنتُ هناك لكانت ضحكتي أعلى وكلامي أوضح. فالحنين هو توق الكلمات الى حيّزها الأول حتى لو كانت غامضة وغريبة عن الجماعة. لكني ـ تقول لنفسك ـ اؤثر الاغتراب في المنفى على الاغتراب في البيت، ففي المنفى ما يوجب ذلك.

لذلك تحنّ في الزحام الى نفسك، الى خلوة للكتابة. الكتابة اقتراب واغتراب يتبادلان الماضي والحاضر. ظمأ الكلمات الى ماء يلمع في سراب الاسطورة، وانقلاب التشبيه على المُشَبّه، وتمويه الواقع بالصورة، بيدي الحنين الحريريّتَين تروض المسافة... إذ تسقف سماءك بكواكب مستعارة، وتمضي مع امرأة أخرى، حقيقيّة، الى غرفة دافئة، معافىً من اسباب الحُمىّ، ومن أنين متقطّع لا يكتمل. فلصوت المطر على الزجاج هياج الرغبة. ليس أكثر من هذا ليبزغ الضوء من ليل الجسد: سريرُكِ سِرُّكِ / ماضيكِ يأتي غدا / على نجمة لا تصيب الندى / بأذى. تلقي برأسك على ركبتيها لتستمع إلى ما يقول الجسد الخالي من الحنين، فقد خُلِقَتْ حوّاء للتو، وللتو ولدت بلا ذاكرة. أنتِ غدي وحاضري ولا أمس لي ـ تقول لها. وتقول لك: أنتَ غدي وحاضري ولا أمس لي. تنامان اثنين في واحد، ولا تحلمان بما هو أكثر من هذا. لم يسأل أحد منكما الآخر عن معنى الاسم، من شدّة ما كان مجهولكما الشهيّ عاكفا على تأجيج الفتنة. تفتنك وتفتنها. وبعد أن تمتلكها وتمتلكك، وتمتلىء بها وتمتلىء بك، يناديك ما يناديها من أقاليم البعيد، فتحنّ هي إلى ماضيها خلف الباب، والى أُغنية غير أُغنيتك /
الحنينُ الى البداية، الى الطريقة التي تمّ بها إيلاج المفتاح في قفل الباب. وإخفاء النظرة عن غايتها. واختيار المقعد وموسيقى الليل بعفوية مُتَمَرّسة ـ هو التمرين العاطفيّ على جسّ نبض الكون. وهو، أي ذاك الحنين، استرجاعٌ للفصل الأجمل في الحكاية: الفصل الأول المُرتَجَل بكفاءة البديهة.
هكذا يولد الحنين من كل حادثة جميلة، ولا يولد من جرح، فليس الحنين ذكرى، بل هو ما ينتقى من متحف للذاكرة. الحنين انتقائيٌّ كبستاني ماهر، وهو تكرار للذكرى وقد صُفِّيت من الشوائب. وللحنين أعراضٌ جانبية من بينها: إدمان الخيال النظَر الى الوراء، والحَرَجُ من رفع الكلفة مع الممكن، والإفراط في تحويل الحاضر الى ماض، حتى في الحب: تعالي معي لنصنع الليلة ماضيا مشتركا ـ يقول المريض بالحنين. سآتي مَعَكَ لنصنع غدا مشتركا ـ تقول المصابة بالحبّ. هي لا تحبُّ الماضي وتريد نسيان الحرب التي انتهت. وهو يخاف الغد لأن الحرب لم تنته. ولأنه لا يريد أن يكبر أكثر.
الحنين ندبة في القلب، وبصمة بلد على جسد. لكن لا أحد يحنّ الى جرحه، لا أحد يحن الى وجع او كابوس، بل يحنّ الى ما قبله، الى زمن لا ألم فيه سوى ألم الملذات الأولى التي تذوّب الوقت كقطعة سكّر في فنجان شاي، الى زمن فردوسيّ الصورة. والحنين نداء الناي للناي لترميم الجهة التي كسرتها حوافر الخيل في حملة عسكرية. هو المرض المتقطّع الذي لا يُعدي ولا يميت، حتى لو اتخذ شكل الوباء الجمعيّ. هو دعوةٌ للسهر مع الوحيد، وذريعة العجز عن المساواة مع ركّاب قطار يعرفون عناوينهم جيدا. وهو ما يُجمع لأحلام الغرباء من مواد مصنوعة من شفافية اللاشيء الجميل، ويُحمّص لهم بُنّ اليقظة.
ونادرا ما يأتي صباحا. ونادرا ما يتدخل في حديث عابر مع سائق تاكسي. ونادرا ما يتطفّل على قاعة مؤتمر، أو على الموعد الأول بين أنثى وذكر... هو زائر المساء، حين تبحث عن آثارك في ما حولك ولا تجدها، حين يحطّ على الشرفة جوريّ يبدو لك أنه رسالة من بلد لم تحبّه وأنت فيه، كما تحبّه الآن وهو فيك. كان معطى وشجرة وصخرة، وصار عناوين روح وفكرة، وجمرة في اللغة. كان هواء وترابا وماءً، وصار الى قصيدة.
ألحنين أنينُ الحقّ العاجز عن الإتيان بالبرهان على قوة الحق أمام حق القوة المتمادية ... أنين البيوت المدفونة تحت المستعمرات، يورثه الغائب للغائب، والحاضر للغائب، مع قطرة الحليب الاولى، في المهاجر والمخيمات. الحنين صوت الحرير الصاعد من التوت الى منْ يحن إليه في أنين متبادل. هو اندماج الغريزة بالوعي وباللاوعي... وشكوى الزمن المفقود من ساديّة الحاضر.
الحنين وَجَعٌ لا يحنّ الى وَجَع. هو الوجَع الذي يسببه الهواء النقيّ القادم من أعالي جبل بعيد، وجع البحث عن فرح سابق. لكنه وجع من نوع صحيّ، لأنه يذكرنا بأننا مرضى بالأمل... وعاطفيون!

من 'حــالة حصــار'

سيمتدّ هذا الحصار إلى أن
يُحِسّ المُحاصِرُ، مثل المُحاصَرِ،
أن الضَّجَر
صِفة من صفات البَشَر

'''
أيَّها الساهرون! أَلم تتعبوا
من مُرَاقبةِ الضوءِ في ملحنا
ومن وَهَج الوَرْدِ في جُرْحنا
أَلم تتعبوا أَيُّها الساهرون؟
'''
واقفون هنا. قاعدون هنا. دائمون هنا.
خالدون هنا.
ولنا هدف واحدٌ واحدٌ واحدٌ: أن نكون.
ومن بعده نحن مُخْتَلِفُونَ على كُلِّ شيء:
علي صُورة العَلَم الوطنيّ
(ستُحْسِنُ صُنْعاً لو اخترتَ يا
شعبيَ الحيَّ رَمْزَ الحمار البسيط)
ومختلفون على كلمات النشيد الجديد
(ستُحْسِنُ صُنْعاً لو اخترتَ أُغنيَّةً عن زواج الحمام)
ومختلفون على واجبات النساء
(ستُحْسِنُ صُنْعاً لو اخْتَرْتَ سيّدةً لرئاسة أَجهزة الأمنِ)
مختلفون على النسبة المئوية، والعامّ والخاص،
مختلفون على كل شيء. لنا هدف واحد:
أَن نكون ...
ومن بعده يجدُ الفَرْدُ مُتّسعاً لاختيار الهدفْ.
'''
عميقاً، عميقاً
يواصل فعلُ المضارع
أشغالَه اليدويّةَ،
في ما وراء الهَدَف ..
'''

قال لي في الطريق إلي سجنه:
عندما أَتحرّرُ أَعرفُ أنَّ مديحَ الوطنْ
كهجاء الوطنْ
مِهْنَةٌ مثل باقي المِهَنْ!
'''
بلاد على أهبة الفجر،
أيقِظْ حصانك واصعد خفيفا خفيفا،
لتسبقَ حُلمَكَ،
واجلس ـ اذا ماطَلَتكَ السماءُ ـ
على صخرةٍ تتنهّدْ
'''
كيف أحملُ حريّتي، كيف تحمِلُني؟ أين
نسكنُ من بعد عقد النكاح، وماذا
أقول لها في الصباح: أَنِمتِ كما ينبغي
ان تنامي الى جانبي؟ وحَلمتِ بأرض السماء؟
وهِمتِ بذاتكِ. هل قُمتِ سالمة من منامك
هل تشربين معي الشايَ أم قهوةً بالحليبِ؟
وهل تؤثرين عصير الفواكهِ، أم قُبَلي؟
(كيف أجعل حُريَّتي حُرَّة؟) يا غريبةُ!
لَسْتُ غريبَكِ. هذا السريرُ سريرُكِ. كوني
إباحيَّةً، حُرَّةً، لا نهائيّةً، وانثري جسدي
زهرةً زهرةً بلهاثك. حُريّتي! عَوّديني
عليك. خذيني الى ما وراء المفاهيم كي
نصبح اثنين في واحدٍ!
كيف أحملها، كيف تحملني، كيف أَصبح سيِّدها
وأنا عبدها. كيف أجعل حريّتي حرّةً
دون أن نفترقْ؟
'''
قَليلٌ من المُطْلَق الأزرقِ اللا نهائيِّ
يكفي
لتخفيف وَطْأَة هذا الزمانْ
وتنظيف حَمأةِ هذا المكان

'''
سيمتد هذا الحصارُ الى أنْ
نُقلّم أشجارنا
بأيدي الأطباء، والكَهَنة
'''
سيمتد هذا الحصارُ، حصاري المجازيُّ
حتى أعلِّم نفسيَ زهد التأمُّل:
ما قبل نفسي ـ بكت سوسَنَةْ
وما بعد نفسي ـ بكت سوسَنَةْ
والمكان يُحَمْلق في عَبَث الأزمنةْ
'''
على الروح أَن تترجَّلْ
وتمشي على قَدَمَيْها الحريريّتينِ
إلى جانبي، ويداً بيد، هكذا صاحِبَيْن
قديمين يقتسمانِ الرغيفَ القديم
وكأسَ النبيذِ القديم
لنقطع هذا الطريق معاً
ثم تذهب أَيَّامُنا في اتجاهَيْنِ مُخْتَلِفَينْ:
أَنا ما وراءَ الطبيعةِ. أَمَّا هِيَ
فتختار أَن تجلس القرفصاء على صخرة عاليةْ
'''
إلى شاعرٍ: كُلَّما غابَ عنك الغيابْ
تورَّطتَ في عُزْلَة الآلهةْ
فكن ذاتَ موضوعك التائهةْ
وموضوع ذاتكَ.
كُنْ حاضراً في الغيابْ

من 'لماذا تركت الحصان وحيدا'

البئر

أختار يومًا غائمًا لأمرّ بالبئر القديمة.
ربّما امتلأت سماءً. ربّما فاضت عن المعنى وعن
أمثولة الراعي. سأشرب حفنةً من مائها.
وأقول للموتى حواليها: سلامًا، أيّها الباقون
حول البئر في ماء الفراشة! أرفع الطّيّون
عن حجرٍ: سلامًا أيها الحجر الصغير! لعلّنا
كنّا جناحي طائرٍ ما زال يوجعنا. سلامًا
أيها القمر المحلّق حول صورته التي لن يلتقي
أبدًا بها! وأقول للسّرو: انتبه ممّا يقول
لك الغبار. لعلّنا كنا هنا وتري كمانٍ
في وليمة حارسات اللازورد. لعلّنا كنّا
ذراعي عاشقٍ...
قد كنت أمشي حذو نفسي: كن قويًّا
يا قريني، وارفع الماضي كقرني ماعزٍ
بيديك، واجلس قرب بئرك. ربّما التفتت
إليك أيائل الوادي ... ولاح الصوت -
صوتك- صورةً حجريّةً للحاضر المكسور...
لم أكمل زيارتي القصيرة بعد للنسيان...
لم آخذ معي أدوات قلبي كلّها:
جرسي على ريح الصنوبر
سلّمي قرب السماء
كواكبي حول السطوح
وبحّتي من لسعة الملح القديم...
وقلت للذكرى: سلامًا يا كلام الجدّة العفويّ
يأخذنا إلى أيّامنا البيضاء تحت نعاسها...
واسمي يرنّ كليرة الذّهب القديمة عند
باب البئر. أسمع وحشة الأسلاف بين
الميم والواو السحيقة مثل وادٍ غير ذي
زرعٍ. وأخفي ثعلبي الوديّ. أعرف أنني
سأعود حيًّا، بعد ساعاتٍ، من البئر التي
لم ألق فيها يوسفًا أو خوف إخوته
من الأصداء. كن حذرًا! هنا وضعتك
أمّك قرب باب البئر، وانصرفت إلى تعويذةٍ...
فاصنع بنفسك ما تشاء. صنعت وحدي ما
أشاء: كبرت ليلاً في الحكاية بين أضلاع
المثلّث: مصر، سوريّا، وبابل. ههنا
وحدي كبرت بلا إلهات الزراعة.
[كنّ يغسلن الحصى في غابة الزيتون. كنّ مبلّلاتٍ بالندى]...
ورأيت أنّي قد سقطت
عليّ من سفر القوافل، قرب أفعى. لم
أجد أحدًا لأكمله سوى شبحي. رمتني
الأرض خارج أرضها، واسمي يرنّ على خطاي
كحذوة الفرس: اقترب ... لأعود من هذا
الفراغ إليك يا جلجامش الأبديّ في اسمك!..
كن أخي! واذهب معي لنصيح بالبئر
القديمة... ربما امتلأت كأنثى بالسماء،
وربّما فاضت عن المعنى وعمّا سوف
يحدث في انتظار ولادتي من بئري الأولى!
سنشرب حفنةً من مائها،
سنقول للموتى حواليها: سلامًا
أيها الأحياء في ماء الفراش،
وأيّها الموتى، سلامًا!

قَافِيةٌ مِنْ أجلِ المعلقات

ما دلّني أحدٌ عليّ
أنا الدليلُ، أنا الدليلُ إليّ
بينَ البحرِ والصحراء
من لغتي ولدتُ
على طريقِ الهند
بينَ قبيلتين صغيرتين عليهما
قمرُ الدياناتِ القديمة، والسلامُ المستحيلُ
وعليهما أن تحفظا فلكَ الجوار الفارسي
وهاجس الرومِ الكبيرَ، ليهبطَ الزمنُ الثقيلُ
عن خيمةِ العربيّ أكثرَ
من أنا؟
هذا سؤالُ الآخرين ولا جوابَ لهُ
أنا لغتي
وأنا معلقةٌ ...معلقتان..عشر، هذه لغتي
أنا ما قالتِ الكلماتُ: كن جسدي
فكنتُ لتبرها جسدا:
أنا ما قلتُ للكلمات
كوني ملتقى جسدي
مع الأبدية الصحراء!
كوني كي أكونَ ما أقولُ
لا أرضَ فوقَ الأرضِ تحملني، فيحملني كلامي
طائرا متفرعا مني
وبين عشِّ رحلتهِ أمامي
في حطامي
في حطامِ العالمِ السحري من حولي
على ريحٍ وقفتُ
وطالَ بي ليلي الطويلُ
هذه لغتي
قلائدُ من نجومِ الأحبةِ: هاجروا
أخذوا المكانَ وهاجروا
أخذوا روائحهم عن الفخارِ
والكلأِ الشحيحِ، وهاجروا
أخذوا الكلامَ وهاجرَ القلبُ القتيلُ معهم
أيتسعُ الصدى، هذا الصدى
هذا السرابُ الأبيضُ الصوتيُّ لاسمٍ
تملأُ المجهولَ بحّتُهُ
ويملأهُ الرحيلُ ألوهةً؟
تضعُ السماءُ عليَّ نافذةً فأنظرُ:
..لا أرى أحدا سواي
وجدتُ نفسي عندَ خارجها
كما كانت معي، ورؤايَ
لا تنأى عنِ الصحراءِ
من ريحٍ ومن رملِ خطايَ
وعالمي جسدي وما ملكت يدايَ
أنا المسافرُ والسبيلُ
يطلُ آلهةٌ عليَّ ويذهبون
ولا نطيلُ حديثنا عما سيأتي
لا غدٌ في هذهِ الصحراء إلا ما رأينا أمس
فلأرفعْ معلقتي لينكسرَ الزمانُ الدائريُّ
ويولدَ الوقتُ الجميلُ
ما أكثرَ الماضي يجيء غدا
تركتُ لنفسها نفسي التي امتلأت بحاضرها
وأفرغني الرحيلُ
من المعابد
للسماء شعوبها وحروبها
أما أنا، فليَ الغزالةُ زوجةً
وليَ النخيلُ
معلقاتٍ في كتابِ الرمل
ماضٍ ما أرى
للمرء مملكةُ الغبار وتاجهُ
فلتنتصرْ لغتي على الدهر العدوِّ
على سلالاتي
..عليَّ
على أبي، وعلى زوالٍ لا يزولُ
هذه لغتي ومعجزتي عصا سحري
حدائقُ بابلي ومسلتي، وهويتي الأولى
ومعدنيَ الصقيلُ
ومقدَّسُ العربيِّ في الصحراءِ..يعبدُ ما يسيلُ
من القوافي
كالنجومِ على عباءتهِ
ويعبدُ ما يقولُ
لا بدَّ من نثرٍ إذا
لا بدّ من نثرٍ إلهيٍّ
لينتصرَ الرسولُ.

تعاليم حورية

فكّرت يومًا بالرحيل، فحطّ حسّونٌ على يدها ونام.
وكان يكفي أن أداعب غصن داليةٍ على عجلٍ...
لتدرك أنّ كأس نبيذي امتلأت.
ويكفي أن أنام مبكّرًا لترى منامي واضحًا،
فتطيل ليلتها لتحرسه...
ويكفي أن تجيء رسالةٌ منّي لتعرف أنّ عنواني تغيّر،
فوق قارعة السجون، وأنّ
أيّامي تحوّم حولها... وحيالها
أمّي تعدّ أصابعي العشرين عن بعدٍ.
تمشّطني بخصلة شعرها الذهبيّ.
تبحث في ثيابي الداخليّة عن نساءٍ أجنبيّاتٍ،
وترفو جوربي المقطوع.
لم أكبر على يدها كما شئنا:
أنا وهي، افترقنا عند منحدر الرّخام... ولوّحت سحبٌ لنا،
ولماعزٍ يرث المكان.
وأنشأ المنفى لنا لغتين:
دارجةً... ليفهمها الحمام ويحفظ الذكرى،
وفصحى... كي أفسّر للظلال ظلالها!
ما زلت حيًّا في خضمّك.
لم تقولي ما تقول الأمّ للولد المريض.
مرضت من قمر النحاس على خيام البدو.
هل تتذكرين طريق هجرتنا إلى لبنان،
حيث نسيتني ونسيت كيس الخبز [كان الخبز قمحيًّا].
ولم أصرخ لئلاّ أوقظ الحرّاس.
حطّتني على كتفيك رائحة الندى.
يا ظبيةً فقدت هناك كناسها وغزالها...
لا وقت حولك للكلام العاطفيّ.
عجنت بالحبق الظهيرة كلّها.
وخبزت للسّمّاق عرف الديك.
أعرف ما يخرّب قلبك المثقوب بالطاووس،
منذ طردت ثانيةً من الفردوس.
عالمنا تغيّر كلّه، فتغيّرت أصواتنا.
حتّى التحيّة بيننا وقعت كزرّ الثوب فوق الرمل،
لم تسمع صدًى.
قولي: صباح الخير!
قولي أيّ شيء لي لتمنحني الحياة دلالها.
هي أخت هاجر.
أختها من أمّها.
تبكي مع النايات موتى لم يموتوا.
لا مقابر حول خيمتها لتعرف كيف تنفتح السماء،
ولا ترى الصحراء خلف أصابعي لترى حديقتها على وجه السراب،
فيركض الزّمن القديم بها إلى عبثٍ ضروريٍّ:
أبوها طار مثل الشركسيّ على حصان العرس.
أمّا أمّها فلقد أعدّت،
دون أن تبكي، لزوجة زوجها حنّاءها،
وتفحّصت خلخالها...
لا نلتقي إلاّ وداعًا عند مفترق الحديث.
تقول لي مثلاً: تزوّج أيّة امرأة من
الغرباء، أجمل من بنات الحيّ.
لكن، لا تصدّق أيّة امرأة سواي.
ولا تصدّق ذكرياتك دائمًا.
لا تحترق لتضيء أمّك، تلك مهنتها الجميلة.
لا تحنّ إلى مواعيد الندى.
كن واقعيًّا كالسماء.
ولا تحنّ إلى عباءة جدّك السوداء،
أو رشوات جدّتك الكثيرة،
وانطلق كالمهر في الدنيا. وكن من أنت حيث تكون.
واحمل عبء قلبك وحده...
وارجع إذا اتّسعت بلادك للبلاد وغيّرت أحوالها...
أمّي تضيء نجوم كنعان الأخيرة،
حول مرآتي، وترمي، في قصيدتي الأخيرة، شالها!

من ديوان 'سرير الغريبة'
سماء منخفضة

هُنَالِكَ حُبٌّ يسيرُ على قَدَمَيْهِ الحَرِيرِيَّتَيْن
سعيدًا بغُرْبَتِهِ في الشوارع،
حُبٌّ صغيرٌ فقيرٌ يُبَلِّلُهُ مَطَرٌ عابرٌ
فيفيض على العابرين:
(هدايايَ أكبرُ منّي
كُلُوا حِنْطَتي
واشربوا خَمْرَتي
فسمائي على كتفيَّ وأَرضي لَكُمْ)...
هَلْ شمَمْتِ دَمَ الياسمينِ المُشَاعَ
وفكَّرْتِ بي
وانتظرتِ معي طائرًا أَخضرَ الذَيْلِ
لا اسْمَ لَهُ؟
هُنَالِكَ حُبٌّ فقيرٌ يُحدِّقُ في النهرِ
مُسْتَسْلِمًا للتداعي: إلى أَين تَرْكُضُ
يا فَرَسَ الماءِ؟
عما قليل سيمتصُّكَ البحرُ
فامش الهوينى إلى مَوْتكَ الاِختياريِّ،
يا فَرَسَ الماء!
هل كنتِ لي ضَفَّتَينْ
وكان المكانُ كما ينبغي أن يكون
خفيفًا خفيفًا على ذكرياتِكِ؟
أَيَّ الأغاني تُحِبِّينَ؟
أيَّ الأغاني؟ أَتلك التي
تتحدَّثُ عن عَطَشِ الحُبِّ،
أَمْ عن زمانٍ مضى؟
هنالك حُبّ فقير، ومن طَرَفٍ واحدٍ
هادئٌ هادئٌ لا يُكَسِّرُ
بِلَّوْرَ أَيَّامِكِ المُـنْتَقَاةِ
ولا يُوقدُ النارَ في قَمَرٍ باردٍ
في سريرِكِ،
لا تشعرينَ بهِ حينَ تبكينَ من هاجسٍ،
رُبَّما بدلاً منه،
لا تعرفين بماذا تُحِسِّين حين تَضُمِّينَ
نَفسَكِ بين ذراعيكِ!
أَيَّ الليالي تريدين؟ أيَّ الليالي؟
وما لوْنُ تِلْكَ العيونِ التي تحلُمينَ
بها عندما تحلُمين؟
هُنَالِكَ حُبٌّ فقيرٌ، ومن طرفين
يُقَلِّلُ من عَدَد اليائسين
ويرفَعُ عَرْشَ الحَمَام على الجانبين.
عليكِ، إذًا، أَن تَقُودي بنفسِكِ
هذا الربيعَ السريعَ إلى مَنْ تُحبّينَ
أَيَّ زمانٍ تريدين؟ أَيَّ زمان؟
لأُصبحَ شاعِرَهُ، هكذا هكذا: كُلَّما
مَضَتِ امرأةٌ في المساء إلى سرِّها
وَجَدَتْ شاعرًا سائرًا في هواجسها.
كُلَّما غاص في نفسه شاعرٌ
وَجَدَ امرأةً تتعرَّى أَمام قصيدتِهِ...
أَيَّ منفىً تريدينَ؟
هل تذهبين معي، أَمْ تسيرين وَحْدَكِ
في اسْمك منفًى يُكَلَّلُ منفًى
بِلأْلاَئِهِ؟
هُنالِكَ حُبٌّ يَمُرُّ بنا،
دون أَن نَنْتَبِهْ،
فلا هُوَ يَدْري ولا نحن نَدْري
لماذا تُشرِّدُنا وردةٌ في جدارٍ قديم
وتبكي فتاةٌ على مَوْقف الباص،
تَقْضِمُ تُفَّاحَةً ثم تبكي وتضحَكُ:
(لا شيءَ، لا شيءَ أكثر
من نَحْلَةٍ عَبَرَتْ في دمي...
هُنالِكَ حُبّ فقيرٌ، يُطيلُ
التأمُّلَ في العابرين، ويختارُ
أَصغَرَهُمْ قمرًا: أَنتَ في حاجةٍ
لسماءٍ أَقلَّ ارتفاعًا،
فكن صاحبي تَتَّسعْ
لأَنانيَّةِ اثنين لا يعرفان
لمن يُهْدِيانِ زُهُورَهُما...
ربَّما كان يَقْصِدُني، رُبَّما
كان يقصدُنا دون أَن نَنْتَبِهْ
هُنَالِكَ حُبّ ...

من أنا، دون منفى؟

غريبٌ على ضفة النهر، كالنهر... يربطني
باسمك الماءُ. لا شيءَ يُرْجعُني من بعيدي
إلى نخلتي: لا السلامُ ولا الحربُ. لا
شيء يُدْخلني في كتاب الأناجيل. لا
شيء... لا شيء يُومِضُ من ساحل الجَزْر
والمدّ ما بين دجلة والنيل. لا
شيء يُنزلني من مراكب فرعون. لا
شيء يَحملني أو يُحَمِّلني فكرة: لا الحنينُ
ولا الوَعْدُ. ماذا سأفعل؟ ماذا
سأفعل من دون منفى، وليلٍ طويلٍ
يُحَدِّقُ في الماء؟
يربطُني
باسمكِ
الماءُ ...
لا شيء يأخذني من فراشات حلمي
إلى واقعي: لا الترابُ ولا النارُ. ماذا
سأفعل من دون وَرْدِ سَمَرقندَ؟ ماذا
سأفعل في ساحةٍ تصقلُ المُنشدين بأحجارها
القمريَّةِ؟ صِرْنا خَفِيفَيْنِ مثلَ منازلنا
في الرياح البعيدةِ. صرنا صَديقيْنِ للكائنات
الغريبةِ بين الغيوم ... وصرنا طليقيْن من
جاذبيَّة أرضِ الهُويَّةِ. ماذا سنفعل ... ماذا
سنفعل من دون منفى، وليلٍ طويلٍ
يُحَدِّقُ في الماء؟
يربطني
باسمك
الماءُ ...
لم يبقَ منِّي سواكِ، ولم يبق منك
سوايَ غريبا يُمَسِّدُ فخْذ غريبته: يا
غريبة! ماذا سنصنع في ما تبقى لنا
من هُدُوءٍ ... وقَيْلولةٍ بين أسطورتين؟
ولا شيء يحملنا: لا الطريقُ ولا البيتُ.
هل كان هذا الطريق كما هُوَ، منذ البداية،
أم أنَّ أحلامنا وَجَدَتْ فرسا من خيول
المَغُول على التلِّ فاسْتبْدَلتنا؟
وماذا سنفعلُ؟
ماذا
سنفعلُ
من
دون
منفى؟

حين تطيل التأمل

حين تطيل التأمل في وردةٍ
جرحت حائطاً، وتقول لنفسكَ:
لي أملٌ في الشفاء من الرملِ /

يخضرُّ قلبك. . .

حين ترافق أنثى إلى السيرك
ذات نهار جميلٍ كأيقونةٍ. . .
وتحلُّ كضيفٍ على رقصة الخيلِ /
يحمرُّ قلبكَ. . .
حين تعدُّ النجومَ وتخطئ بعد
الثلاثةَ عشرَ، وتنعس كالطفل
في زرقة الليلِ /
يبيّضُ قلبك. . .
حين تسير ولا تجد الحلمَ
يمشي أمامك كالظلّ /
يصفرُّ قلبك. . .
من ديوان: لا تعتذر عمّا فعلت
لي حكمة المحكوم بالاعدام
ليَ حكمةُ المحكوم بالإعدامِ:
لا أشياءَ أملكُها لتملكني
كتبتُ وصيَّتي بدمي:
'ثِقُوا بالماء يا سُكّان أُغنيتي!'
ونِمْتُ مُضرّجاً ومتوَّجاً بغدي...
حلِمْتُ بأنّ قلب الأرض أكبرُ
من خريطتها،
وأوضحُ من مراياها ومِشْنَقتي.
وهِمْتُ بغيمةٍ بيضاء تأخذني
إلى أعلى
كأني هُدْهُدٌ، والريحُ أجنحتي.
وعند الفجر، أَيقظني
نداءُ الحارس الليليِّ
من حُلْمي ومن لغتي:
ستحيا ميتةًً أخرى،
فعدِّلْ في وصيّتك الأخيرة،
قد تأجَّل موعدُ الإعدام ثانيةًً
سألتُ: إلى متى..؟
قال: انتظر لتموت أكثر
قلتُ: لا أشياء أملكها لتملكني
كتبتُ وصيّتي بدمي:
'ثِقُوا بالماء
يا سُكّان أغنيتي!'
وأنا، وإن كنت الأخير
وأنا، وإن كُنْتُ الأخيرَ،
وجدْتُ ما يكفي من الكلماتِ...
كلُّ قصيدةٍ رسمٌ
سأرسم للسنونو الآن خارطةَ الربيعِ
وللمُشاة على الرصيف الزيزفون
وللنساء اللازوردْ...
وأنا، سيحمِلُني الطريقُ
وسوف أحملُهُ على كتفي
إلى أن يستعيدَ الشيءُ صورتَهُ،
كما هي
واسمَه الأصليّ في ما بعد/
كلُّ قصيدة أُمٌّ
تفتش للسحابة عن أخيها
قرب بئر الماء:
'يا ولدي! سأعطيك البديلَ
فإنني حُبْلى...'/
وكُلُّ قصيدة حُلمٌ:
'حَلِمْتُ بأنّ لي حلماً'
سيحملني وأحملُهُ
إلى أن أكتب السطر الأخيرَ
على رخام القبرِ:
'نِمْتُ... لكي أطير'
وسوف أحمل للمسيح حذاءَهُ الشتويَّ
كي يمشي، ككُلِّ الناس،
من أعلى الجبال... إلى البحيرة

لا تعتذر عمّا فعلت

لا تعتذر عما فعلت ـ أقول في
سري. أقول لآخري الشخصي:
ها هي ذكرياتك كلها مرئية:
ضجر الظهيرة في نعاس القط/
عرف الديك/
عطر المريمية/
قهوة الأم/
الحصيرة والوسائد/
باب غرفتك الحديد/
الذبابة حول سقراط/
السحابة فوق أفلاطون/
ديوان الحماسة/
صورة الأب/
معجم البلدان/
شكسبير/

الأشقاء الثلاثة، والشقيقات الثلاث،
وأصدقاؤك في الطفولة، والفضوليون:
'هل هذا هو؟' اختلف الشهود:
لعلهن وكأنه. فسألت: 'من هو؟'
لم يجيبوني. همست لآخري: 'أهو
الذي قد كان أنت... أنا؟' فغض
الطرف. والتفتوا إلى أمي لتشهد
أنني هو.. فاستعدت للغناء على
طريقتها: أنا الأم التي ولدته
لكن الرياح هي التي ربته
قلت لآخري: لا تعتذر إلا لأمك!!!

سقط الحصان عن القصيدة

سقط الحصان عن القصيدة
والجليليات كنّ مبلّلاتٍ
بالفراش وبالندى،
يرقصن فوق الأقحوان
*
الغائبان: أنا وأنتِ
أنا وأنتِ الغائبان
*
زوجا يمام أبيضانْ
يتسامران على غصون السنديانْ
لا حبّ، لكني أحبّ قصائد
الحب القديمة، تحرسُ
القمر المريض من الدخان
*
كرٌّ وفرٌّ، كالكمنجة في الرباعياتِ
أنأى عن زماني حين أدنو
من تضاريس المكان...
*
لم يبقَ في اللغة الحديثة هامشٌ
للاحتفاء بما نحبّ،
فكل ما سيكون... كان
*
سقط الحصان مضرّجاً
بقصيدتي
وأنا سقطتُ مضرّجاً
بدم الحصان...

إلى نخلتي: لا السلامُ ولا الحربُ. لا
السروة انكسرت
السروة انكسَرَتْ كمئذنةٍ، ونامت في
الطريق على تَقَشُّف ظِلِّها، خضراءَ، داكنةً،
كما هِيَ. لم يُصَبْ أَحدٌ بسوء. مَرّت
العَرَباتُ مُسْرِعَةًعلى أغصانها. هَبَّ الغبارُ
على الزجاج... السروةُ انكسرتْ، ولكنَّ
الحمامة لم تغيِّر عُشَّها العَلَنيَّ في دارٍ
مُجَاورةٍ. وحلّق طائران مهاجران على
كَفَاف مكانها، وتبادلا بعضَ الرموز.
وقالت امرأةٌ لجارتها: تُرَى، شاهَدْتِ عاصفةً؟
فقالت: لا، ولا جرَّافةً... والسروةُ
انكسرتْ. وقال العابرون على الحُطام:
لعلَّها سَئِمَتْ من الإهمال أَو هَرِمَتْ
من الأيّام، فَهْيَ طويلةٌ كزرافةٍ، وقليلةُ
المعنى كمكنسةِ الغبار، ولا تُظَلِّلُ عاشِقَيْن.
وقال طفلٌ: كنتُ أَرسمها بلا خطأ،
فإنَّ قوامَها سَهْلٌ. وقالت طفلةٌ: إن
السماءَ اليوم ناقصةٌ لأن السروةَ انكسرت.
وقال فتىً: ولكنَّ السماءَ اليوم كاملةٌ
لأن السروةَ انكسرتْ. وقُلْتُ أَنا
لنفسي: لا غُموضَ ولا وُضُوحَ،
السروة انكسرتْ، وهذا كُلُّ ما في
الأمرِ: إنَّ السروة انكسرتْ!

ماذا سيبقى؟

ماذا سيبقى من هبات الغيمة البيضاء؟
- زهرة بيلسان
ماذا سيبقى من رذاذ الموجة الزرقاء؟
- ايقاع الزمان
ماذا سيبقى من نزيف الفكرة الخضراء؟
- ماء في عروق السنديان
ماذا سيبقى من دموع الحب؟
- وشم ناعم في الأرجوان
ماذا سيبقى من غبار البحث عن معنى؟
- طريق العنفوان
ماذا سيبقى من طريق الرحلة الكبرى
الى المجهول؟
- أغنية المسافر للحصان
ماذا سيبقى من سراب الحلم؟
- آثار السماء على الكمان
ماذا سيبقى من لقاء الشيء باللاشيء؟
- إحساس الألوهة بالأمان
ماذا سيبقى من كلام الشاعر العربي؟
- هاوية.. وخيط من دخان
ماذا سيبقى من كلامك أنت؟
- نسيان ضروري لذاكرة المكان!
يُدْخلني في كتاب الأناجيل. لا
شيء... لا لو كنتُ غيري

لو كنتُ غيري في الطريق، لما التفتُّ
إلى الوراء، لقلت ما قال المسافرُ
للمسافرة الغريبة: ياغريبةُ ! أيقظي
الجيتارَ أكثرَ ! أرجئي غدنا ليمتدَّ الطريقُ
بنا، ويتسع الفضاء لنا. فننجو من
حكايتنا معا: كم أنتِ أنتِ .. وكم أنا
غيري أمامكِ هاهنا!

لو كنتُ غيري لانتميت إلى الطريق،
فلن أعود ولن تعودي. أيقظي الجيتار
كي نتحسَّسَ المجهول والجهة التي تُغْوي
المسافر باختبار الجاذبية. ما أنا إلا
خُطاي، وأنتِ بوصلتي وهاويتي معاً.
لو كنتُ غيري في الطريق لكنتُ
أخفيتُ العواطفَ في الحقيبة، كي
تكون قصيدتي مائيةً، شفافةً، بيضاءَ،
تجريديةً، وخفيفةً ... أقوى من الذكرى،
وأضعف من حبيبات الندى، ولقلتُ:
إنّ هويتي هذا المدى!
لو كنتُ غيري في الطريق، لقلتُ
للجيتار درِّبْني على وترٍ إضافيٍّ!
فإن البيتَ أبعدُ، والطريق إليه أجملُ ـ
هكذا ستقولُ أغنيتي الجديدةُ ـ كلما
طال الطريق تجدّد المعنى، وصرتُ اثنين
في هذا الطريق: أنا .... وغيري!
شيء يُومِضُ من ساحل الجَزْر

من ديوان 'كزهر اللوز أو أبعد'

فكّر بغيرك ...

وأنت تعدّ فطورك، فكّر بغيرك
لا تنس قوت الحمام
وأنت تخوض حروبك فكّر بغيرك
لا تنس من يطلبون السلام
وأنت تسدّد فاتورة الماء، فكّر بغيرك
من يرضعون الغمام
وانت تعود إلى البيت، بيتك، فكّر بغيرك
لا تنس شعب الخيام
وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكّر بغيرك
ثمّة من لم يجد حيّزاً للمنام
وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكّر
بغيرك من فقدوا حقّهم في الكلام
وأنت تفكّر بالآخرين البعيدين، فكّر
بنفسك
قل: ليتني شمعةٌ في الظلامْ

لوصف زهر اللوز

لوصف زهر اللوز، لا موسوعة الأزهار
تسعفني، ولا القاموس يسعفني...
سيخطفني الكلام إلى أحابيل البلاغة
والبلاغة تجرح المعنى وتمدح جرحه،
كمذكر يملي على الأنثى مشاعرها
فكيف يشع زهر اللوز في لغتي أنا
وأنا الصدى؟
وهو الشفيف كضحكة مائية نبتت
على الأغصان من خفر الندى...
وهو الخفيف كجملة بيضاء موسيقية...
وهو الضعيف كلمح خاطرة
تطل على أصابعنا
ونكتبها سدى
وهو الكثيف كبيت شعر لا يدون
بالحروف
لوصف زهر اللوز تلزمني زيارات إلى
اللاوعي ترشدني إلى أسماء عاطفة
معلقة على الأشجار. ما اسمه؟
ما اسم هذا الشيء في شعرية اللاشيء؟
يلزمني اختراق الجاذبية والكلام،
لكي أحس بخفة الكلمات حين تصير
طيفا هامسا فأكونها وتكونني
شفافة بيضاء
لا وطن ولا منفى هي الكلمات،
بل ولع البياض بوصف زهر اللوز
لا ثلج ولا قطن فما هو في
تعاليه على الأشياء والأسماء
لو نجح المؤلف في كتابة مقطع ٍ
في وصف زهر اللوز، لانحسر الضباب
عن التلال، وقال شعب كامل:
هذا هوَ
هذا كلام نشيدنا الوطني!

في البيت أجلس

في البيت أجلس، لا حزيناً لا سعيداً
لا أنا، أو لا أحد
صحف مبعثرة. وورد المزهرية لا يذكرني
بمن قطفته لي. فاليوم عطلتنا عن الذكرى،
وعطلة كل شيء... إنه يوم الأحد
يوم نرتب فيه مطبخنا وغرفة نومنا،
كل على حدة. ونسمع نشرة الأخبار
هادئة، فلا حرب تشن على بلد
ألامبراطور السعيد يداعب اليوم الكلاب،
ويشرب الشمبانيا في ملتقى نهدين من
عاج... ويسبح في الزبد
ألامبراطور الوحيد اليوم في قيلولة،
مثلي ومثلك، لا يفكر بالقيامة .. فهي
مُلك يمينه، هي والحقيقة والأبد!
كسلٌ خفيفُ الوزن يطهو قهوتي
والهال يصهل في الهواء وفي الجسد
وكأنني وحدي. أنا هو أو أنا الثاني
رآني واطمأنَّ على نهاري وابتعد

يوم الأحد

هو أول الأيام في التوراة، لكن
الزمان يغير العاداتِ: إذ يرتاح
ربُّ الحرب في يوم الأحد
في البيت أجلس، لا سعيداً لا حزيناً
بين بين. ولا أبالي إن علمت بأنني
حقاً أنا ... أو لا أحد!

لا أعرف الشخص الغريب
لا أعرف الشخص الغريب ولا مآثرهُ...
رأيت جنازةً فمشيت خلف النعش،
مثل الآخرين مطأطىء الرأس احتراماً. لم
أجد سببا لأسأل: من هو الشخص الغريب؟
وأين عاش، وكيف مات [فإن أسباب
الوفاة كثيرةٌ من بينها وجع الحياة].
سألتُ نفسي: هل يرانا أم يرى
عدماً ويأسف للنهاية؟ كنت أعلم أنه
لن يفتح النعش المُغطى بالبنفسج كي
يُودعنا ويشكرنا ويهمس بالحقيقة
[ما الحقيقة؟]. ربما هو مثلنا في هذه
الساعات يطوي ظلَّه. لكنه هو وحده
الشخصُ الذي لم يبكِ في هذا الصباح،
ولم ير الموت المحلق فوقنا كالصقر...
[فالأحياء هم أبناء عم الموت، والموتى
نيام هادئون وهادئون وهادئون] ولم
أجد سبباً لأسأل: من هو الشخص
الغريب وما اسمه؟ [لا برق
يلمع في اسمه] والسائرون وراءه
عشرون شخصا ما عداي [أنا سواي]
وتُهتُ في قلبي على باب الكنيسة:
ربما هو كاتبٌ أو عاملٌ أو لاجئٌ
أو سارقٌ، أو قاتلٌ... لا فرق،
فالموتى سواسية أمام الموت.. لا يتكلمون
وربما لا يحلمون...
وقد تكون جنازةُ الشخص الغريب جنازتي
لكنَّ أمراً ما إلهياً يؤجلها
لأسباب عديدة
من بينها: خطأ كبير في القصيدة!

الآن بعدك

الآن، بعدكِ... عند قافية مناسبةٍ
ومنفى، تُصلح الأشجارُ وقفتها وتضحك.
إنه صيف الخريف... كعُطلةٍ في غير
موعدها، كثقبٍ في الزمان، وكانقطاعٍ
في نشيدِ صيف الخريف تَلفُّتُ الأيام صوب حديقةٍ
خضراءَ لم تنضج فواكهُها، وصوبَ حكايةٍ
لم تكتمل: ما زال فينا نورسان يُحلِّقان
من البعيد إلى البعيد
الشمس تضحكُ في الشوراع، والنساءُ
النازلاتُ من الأسِرَّة، ضاحكاتٍ ضاحكاتٍ،
يغتسلن بشمسهنَّ الداخلية، عارياتٍ عارياتٍ.
إنه صيف الخريف يجيء من وقت إضافيٍّ
جديد. صيف الخريف يشدّني ويشُّدكِ: انتظرا!
لعل نهاية أخرى وأجمل في انتظاركما أمام
محطة المترو. لعل بداية دخلت إلى
المقهى ولم تخرج وراءكما. لعل خطابَ
حبّ ما تأخر في البريد.
الآن، بعدك... عند قافية ملائمة
ومنفى... تُصلح الأشجارُ وقفتها وتضحك.
أَشتهيك وأشتهيك وأنت تغتسلين،
عن بعدٍ، بشمسك. إنه صيف الخريف
كعطلة في غير موعدها. سنعلم أنه
فصلٌ يدافع عن ضرورته، وعن حُبّ
خرافيّ... سعيدِ الشمس
تضحكُ من حماقتنا وتضحكُ، لن أعود ولن تعودي!

0 Comments: