في ما يشبه الحافلة
الريح ترقص كل عابر، ويرقص المطر مع إيقاع حفيف الأوراق المتساقطة، قطراته تتلألأ وتبدو من بعيد كنجيمات صغيرة... الشارع يرفض أن ينتهي، والحافلة تأبى الوصول... الجريدة في يدي ألاعب صفحاتها دون أن أدري أن الحقيقة لا توجد بين الأسطر، كما يقال، ولكن الحقيقة ترقص في الشارع، أو ليس المطر يرقص كل عابر؟ والحقيقة كذلك عابرة، متنقلة ترفض أن تستريح في محطتي أو في محطتنا جميعا...تتسلل من نافذة الحافلة المكسورة، كومة برد تصفع أذناي، تحوم حولي، حول الجريدة، وحول رفيقي الجالس قربي والبعيد، البعيد عني... جسدي يكاد يلامس معطفه، عيناي تكادان تخترقان يديه الباردتين وهما يمسكان بالهاتف النقال من نوع نوكيا أو شيء من هذا القبيل...كل شيء يمر عابرا متنقلا..
لا أرى من نافذتي سوى أشباح أناس تسير عكس إتجاهي.. أحاول عبثا الإمساك بالخيط الحريري الذي يحركهم، علني أوقف هذا الدوران، أحاول مرة، مرتين... تسقط الجريدة من يدي، ينتبه الرفيق الجالس قربي، عيناه تلمعان، أرى وجهي الشاحب في البؤبؤين ، سيضحك لا محالة... ها هو يضحك، ثم يعود إلى صمته المعهود... تجلس القرفصاء، هذه الحافلة التي تمتطينا، لأنه لو كنا نمتطيها فعلا لما جلست القرفصاء... " باسكال" يعرف أن المجنون هو ذاك الذي فقد كل شيء إلا عقله، لكنه لا يعرف أن الحافلة هي تلك التي فقدت كل شيء إلا محركها !!أواصل سيري البطيء، رغم أنني أمتطي الحافلة، لأنه كما قلت سابقا، الحافلة هي التي تمتطينا...
لا أعرف متى سأصل إلى الكلية، هل بعد مرور شهر كامل، أم سأصل بعد سنوات من السير البطيء... الكل يعرف متى سنصل، إلا أنا أظل أجهل نقطة الوصول، وساعة الوصول ولحظة الوصول.ماذا جرى بعد ذلك؟لست أدري، لأنني لم أصل بعد...عندما أصل سوف أكمل الحكاية...لكن ماذا جرى قبل ذلك؟لقد نسيت كل شيء، كل ما أذكره هو أنني خرجت من المنزل، بعد أن تناولت فطوري، وحملت حقيبتي، وجمعت دفاتري، وأقلامي ثم توجهت صوب محطة الحافلة ( نقول عادة، " محطة الحافلات"، لكن بما أن هناك حافلة واحدة مهترئة تقلنا إلى الكلية، يجوز أن نقول محطة الحافلة، هذا إذا أتت تلك الحافلة وتوفي حمار ما في أقصى بلاد الله، أما إذا لم تأت فتصبح هذه المحطة محطة للطلبة !!).سأكمل الحكاية...عفوا... كنت سأكملها ... لكن المداد فرغ من قلمي، فخرجت من المنزل في منتصف الليل لشراء قلم آخر فوجدت كل " الحوانيت" مغلقة، فتوقفت الحكاية
بقلم: فخر الدين العثماني
fakhr-din0@hotmail.com






0 Comments:
Post a Comment