قــبل الآن
أقبل كعادته متئبطا جريدته اليومية ،رافعا رأسه الى أعلى و عيناه البلوريتان لا تفتران عن التمعن في الطريق الرئيسي المؤدي الى شاطئ المدينة ،دخا المقهى دون ان يكلم احدا ،حتى رفيقه في النضال و المعتقل لم يحيه ،فجأة اشار الى النادل بطرف أصبعه ،أقبل هذا الاخير يحمل صينية فيها أكواب لم تبقى فيها سوى رواسب طلبات زبناء المقهى ،همس في أذنه ،خلت نفسي أنني سمعته ،قال للنادل: ألم ترى ضحى هذا الصباح ؟ ،رد النادل:لا ولكنها عادة ماتتوجه يوم السبت نحو المعبد ،ابتسم ابتسامة رجل محارب أقبل للتو من ساحة الوغى ،وودع الندل منصرفا من المقهى بخطوات ميكانكية بطيئة ،أحس بشئ ما يدغدغ عواطفه ،و سار مبتسما طوال الطريق الى أن وصل باب البيعة اليهودية ،في البداية استحيى من الدخول ،أشياء كثيرة تجوب دماغه دون أن يجد كيفية معينة لترتيبها ووضع يد القانون عليها ،هو مسلم،ضحى يهودية ،اليوم يوم مقدس عند اليهود ،ضحى و لاشك لن تمازحه اليوم ،ربما تصرم عنه حبلها ،ستتركه فاغرا فاه كمن حط عليه وابل من أخبار مفجعة أصابته بالهذيان. أترحل به ذاكرته الى أيام المعتقل ،صحيح القول سنوات المعتقل ،قضى ثمانية عشر ة سنة في جحيم تمتزج فيه الوحشة بالمصير المجهول ،و الحلم بالحرية يوما بمستقبل مخيف ،عايش الموت حشرة أليفة أو أدنى ،جابه سم الحياة في بركة دم واسعة العمق لا يتخطاها سوى العقلاء من السباحين ،رمته المحاكمة في هوة سحيقة ،حكموا عليه بما لم يحكم به من قبل ،صار عنيدا جدا، داخل المعتقل رحيم جدا،صبورجدا و تعيس جدا مرة أخرى ،مات أغلب رفاقه داخل زنازنهم التي لم تكتمل بعد ،نزيف حتى الموت، لسعات أفاعي و عنف السجانين ،هذه بعض أسباب المنية المبكرة التي طالت مسجوني المصير ،يقلع عن ماضي البؤس ويرتد بصيرا بحالته الآنية ،بضع خطوات تمكنه من الدخول الى بيعة اليهود هذه ،لكنه أقسم في سجنه على ألا يخطئ الطريق مرة أخرى، تراوده أفكار بئيسة،هو يعشق ضحى ان لم يرها الآن فسيقضي بعض ساعته شاحب اللون مقطب الحاجب بئيس الحال و الأحوال، يتردد ثم يقتحم عوالم مجهولة، يليج معبد اليهود تاركا تلك الأحاسيس التي تحاول تجرمه وراء ظهره مصرا على أن يطئ عالم ضحى، و لما لا فهو من اقتحم أبوابا جهنمية عدة، فكيف يتوقف شارد الذهن امام معبد لا أقل و لاأكثر، ثم و هو في المعبد فلن ينقص ذلك من تعلقه بدينه شيأ، لمح ضحى، ابتسمت له، رد هو بأخرى، تصافحا و جلس قليلا ثم خرجا يمشيان سويا بوجهين بشوشين ويدين متشابكتين و الابتسامة تعلو محياهما،لقد خرجا من المعبد
مصطفى العوزي






0 Comments:
Post a Comment