عــمــــود الخمـــيس
عماد أرجاز الشرفاوي
يكتب
الصمت
كم نحن متقلبون في الواقع، وكم هي وقتية مشاعرنا، قليل من الجمال يستميلنا، وأي شيء يغوينا، ويجعلنا نغير دربنا. القليل من الفلسفة يجعلنا نفكر، نتأمل ونغفو. القليل من الحب الصافي يدفعنا إلى مراجعة ذواتنا، وهكذا يأخذنا يم التفكير إلى أفق لا أول له ولا أخر، ونختار حينها بين الارتماء في أحضان اليأس أو أن نعنون الأحداث اليومية بظرف الفكاهة وبالأشياء الباعثة على الضحك ، والغنائية التائهة ، أو أن نملئ حياتنا –الحياة المتقلبة – بالصمت ، فلا ندع أنفسنا بين أيدي اليأس ولا نضحك ، وكأن الزمن حينها يتوقف ، فيصير الخريف فصلا دائما ويصبح العشب دائم العذاب ، لأنه من يتحمل الأوراق الصفراء الحزينة والصامتة ، كما تصبح السماء ساحة نزال دائم بين السحب فلا نعرف أبدا المنهزم والمنتصر. وفي ظل هذا الزمن المتوقف وهذا الصمت القاتل تتأوه قلوبنا وتتألم وما من سبيل لتبديد الصمت لأنه بأقنعة كثيرة!!! الصمت كلمة متعددة المعاني ، قشرها رقيق جدا نستمتع أحيانا بإزالته ، في لحظات النشوة ولكننا في غالب الأحيان نرعب في ذلك، ونصطدم بالأخر قاسيا، متكبرا ،مغرورا، وأنانيا.
الصمت تغييب للصوت، وكف عن الكلام، وأحيانا فيه تأمل، يتجلى الصمت غناء خفيا للكلام، وقد أوصل الصمت ما عجز الكلام عن ترجمته.
الصمت موسيقى بألف نغمة، تتغير حسب المتخيل و الوجداني وحسب الحدس. يستطيع الصمت كشف ما وراء المعنى الكلي، ما وراء العقل. يأخذنا إلى قلب الأشياء، يقربنا من الأخر ويقربنا من الله. الصمت ذهب لا رنين له، ولهذا ظل منذ أزمنة غابرة الوسيلة الممتازة لبلوغ الحقيقة، وظل الينبوع الخفي للحقائق الهائلة، فعبر الصمت ندرك من يحبنا، من يعشقنا ومن يمقت وجودنا، وعبره نكتشف الأرواح الخفيفة السائرة في الفضاء العلوي وهي تبحث عن أمال ضاعت منها فيما مضى، وتحاول إيجادها من جديد. الصمت مغامرة، وباب مشرع على المطلق، ونحن إذ نشبه قطرة الماء محيط الكون ولا يعرقل صمتنا إلا التساؤل: هل تدرك نقطة الماء أن المحيط فيها ؟ هل نعي وندرك نحن روابطنا بالكون؟ هل نعلم أن حياتنا الصغيرة تنصهر في حياتنا الكبيرة، فتصير هي نحن ونحن هي؟ أكيد لا نعلم هذا، ولن نتعلم هذه الأشياء إلا عبر الصمت لأنه الفضاء الذي فيه نتحاور بحرية، نغضب، نشتم ونعترف بما لا نستطيع الاعتراف به في الواقع، نصرح بحبنا ونبدو ضعافا ونحن في الواقع لنا شهرة بالقوة والصرامة.
الصمت خزان للأسرار والألام والمصائب، بل وللمشاعر أيضا.عبر الصمت نكتشف أن لكل شيء بداية وأن لكل بداية نهاية، فالبرعم الذي يبزغ، يزهر فيتفتح ويذبل ثم يصير عفرا ليس إلا نموذجا للموت الدائم و للحياة المستمرة. كل ما يولد يموت، وكل ما يأتي يمضي فيتجلى بذلك اللامتناهي، ولكن قاعدة الموت هذه لا يخضع لها الحب، ولعله من المشاعر المحظوظة جدا فلا يعرف نهاية أو موتا هو أبدي، عميق وضروري ، فلا حياة بدون حب، فهو سر ما أن تلامسه يد الشك حتى يتوارى للأبد، رغم أن ذكراه لا تموت.الحب فسحة للغفران والثناء غير المستحق، وللحنان أيضا، الحب يغني بحنان، يصرخ ومع كل صرخة يحرقنا.الحب يخرب كل شيء ولكنه مدمر لطيف، لا يصبر الحب على القسوة، ولا يحتمل الإهمال أو الجرح، لأننا إن أهملناه نفتقده، وإن افتقدناه يحتمل أن نهلك كما الأطفال الصغار، ومن قال أننا لسنا أطفالا؟
نحن أطفال رغما عن أنفسنا، فما معنى أن نثور لأمور تافهة وأن نؤلم من يحبنا وأن نكذب، أو ليس الكذب معقل الأطفال؟ أليست المراوغة سبيل الأطفال لإقناع الكبار؟ لا شك من أننا أطفال، وأنا قد تأكدت بعد يقين نسبي من أنني طفل يستيقظ مع كل كلمة يخطها، طفل يترنح ويسرع في أسر أكبر عدد من العيون والقلوب حوله، ولم يأسر عيني وقلبي أحد بعد؟؟؟
أشعر بنفسي صورة في عيون قريبة مني وأراني ابتسامة بريئة على شفتي عاشقة قديمة، لم أكن أعرف لها وجودا إلا قريبا.
أكتشف أنني طفل بعد طول بحث كمن استيقظ على الحقيقة بعد طول تأمل.كم هي الحقيقة قريبة، ومع ذلك نبحث عنها بعيدا، أقول هذا وأنا كذلك الذي في الماء يصيح أنا عطشان، أو كابن الغني يتيه في العوز، فحاجتي للحقيقة الآن تفوق كل تصور.كم صحوت متأخرا، وكم أنا متأخر في حبك أيها الجمال القديم جدا، والجديد جدا. فقد كنت في داخلي على الدوام ولكنني للأسف كنت خارج نفسي.وفي هذا الخارج بحثت عنك طويلا فلم أجد إلا الصمت. وأعود للصمت لأنه البداية وهو بذاته النهاية.الصمت من أعاد إلي مشاعر مفقودة لم أتخيل يوما بأني سأسترجعها، الصمت من أطلعني على الحب ؟ وليس أي حب، حب بلا منطق أو هكذا يبدو لي ؟ لا أعلم حقا لمن سأوجه خطابي هذا، ولكني إن كنت حقا ملزما بإعمال العقل سوف أتحدث دون أن أعني لمن سأوجه خطابي.فأنا الآن في لحظات الغوص في الصمت حيث لا صوت يسمع إلا حفيف الأشجار الخافت.
كنت أتحدث عن الحب، وأتذكر وجها ألفته منذ زمن، لطالما احتفظت بعيوني بروعة قلبها ومشاعرها، لقد كانت وما زالت حديقة بكل الفصول، كانت خبرة شخصية بالنسبة لي عشتها بكل كياني ولكني لن أستطيع يوما إعادة نسج خيوطها على شكل خطوط بكل بساطة لأنها تجربة لا مثيل لها و تفوق التصور.؟؟؟
كم كنت سعيدا، كنت أشك في ذاتي أحيانا، فأتساءل هل أنا حقا ذات الشخص؟ لا أعلم كيف أصف من شاركتني تلك التجربة، فقد كانت كقصيدة طويلة بطريق وهرة تفضي للصمت وللسكينة الداخلية.كانت كزهرة أسقط المطر أوراقها، وبدد صوت خطواتها صمت قاتل.
تخنقني الكلمات و الذكريات ولا ينقذني إلا الكلام، رغم أن الصمت من أكمل الطرق لبلوغ الحقيقة، ولكنه أيضا من أكثر المناسبات انفتاحا على الجراح القديمة والذكريات المنغرسة في الذاكرة.
ترى من سيقرأ هذه الخطوط، أم أن هذه الأوراق سيبتلعها الماء لتموت غرقا وبصمت، لا أعلم حقا من سيكون صاحب أو صاحبة العيون التي ستلتهم هذه الخطوط بصمت دون أن تضيع الكتابة أو ينكشف المستور بداخل حفر الكلمات الصامتة.؟؟؟
وعلى من سيقرأ خطوطي هذه أن يعذر ضياعي بين السطور وتيهي بين الرفض والإيجاب، بين الاعتراف والإنكار أمام حقيقة تفضحها عيناي ويخفيها قلبي ويشهد على كل هذا عقلي .






0 Comments:
Post a Comment