الثلاثاء، أكتوبر 07، 2008


غادرنا الشاعر الكبير محمود درويش ' الحبيب زين الشباب' كما يحلو لصفوة الأصدقاء والمحبين في هذه اللحظات العصيبة أن ينادوه وهم في غمرة الشجن واللوعة لفقده الصادم. وقد شاءت الصدف في المدة الأخيرة التي سبقت وفاة الشاعر أن يحتد النقاش كثيرا حول القصائد الجديدة التي جاد بها الفقيد على جمهوره المترقب، وتفردت مؤسسة 'رياض الريس' وصحيفة القدس العربي بنشرها. حيث بدا مجرى التحولات بارزا في هذا المنتج الشعري الجديد، وكان الحديث حول أبعاد النبرة الوجودية التي تتخلله طاغيا في المسامرات النقدية. ولكن لم يكن يجري في الحسبان أن الشاعر سوف يكتب، عبر هذه النصوص ولاسيما قصيدته الأخيرة ' لاعب النرد' مرثيته الخاصة التي سيلهج فيها على نحو غير مسبوق بأحاسيس موصولة بكنه الهوية وسؤال المصير.
لقد شكلت هذه النصوص الشعرية الجديدة انزياحا ملحوظا عن مستوى السياق الأصلي الذي وسم تجربة الشاعر خلال العقود الماضية بصفة شاعر القضية ، وربطها بأفق انتظار محدد ينخرط في خط الالتزام المُحلــَّى بلبوس العقيدة القومية وفورة الوجدان العربي الغاضب الذي تحتل فيه القضية الفلسطينية موقع البؤرة . وللتذكير، فإن هذا المسار التأسيسي هو الذي تؤرخ له المجاميع الشعرية: أوراق الزيتون وعاشق من فلسطين ، وآخر الليل، ومديح الظل .... وتوثقه القصائد الثورية من قبيل : 'وعاد في كفن' 'نشيد الرجال'، 'سجل أنا عربي' ' الموت في الغابة' ' رسالة من المنفى' ' أغاني الأسير' ' جواز سفر' ' الجسر' يوميات جرح فلسطيني ' ' العصافير تموت في الجليل'. بيد أن حتمية الحركة ومنطق التطور في زمن التحولات راحت تملي على رؤيا الشاعر طقوسا جديدة استشعرها من وحي المنعطف التاريخي الجديد، وبفعل الطفرة الوجودية التي آلت إليها الكينونة.
ويعد ديوان ' أثر الفراشة' من بين أهم المجاميع الشعرية الأخيرة التي أفصحت عن هذا التحول الرؤيوي المباغت من منحى راسخ في التمرد والمعاندة الثورية، وخط واضح في التعبير عن ثبات الهوية وإطلاق صوتها الجهير، إلى نطاق من الاستسلام لمنطق السؤال حول سرّ الكينونة التي يطوقها مجاز الهوية ولغز المصير. وفي هذا الديوان يعرض الشاعر من خلال قصيدة له تحت عنوان
' اغتيال' فرضية الصدمة التي قد تعكسها هذه الانزياحات الشعرية على آفاق التلقي الموسومة بالمواقف المسبقة، ليس على مستوى القراءة العادية فحسب، بل حتى على مستوى القراءة العالمة المتمثلة لدى فئة النقاد:
يغتالني النُقَّاد أَحياناً:
يريدون القصيدةَ ذاتَها
والاستعارة ذاتها...
فإذا مَشَيتُ على طريقٍ جانبيّ شارداً
قالوا: لقد خان الطريقَ
وإن عثرتُ على بلاغة عُشبَةٍ
قالوا: تخلَّى عن عناد السنديان
وإن رأيتُ الورد أصفرَ في الربيع
تساءلوا: أَين الدمُ الوطنيُّ في أوراقهِ؟ ...
وإذا نظرتُ الى السماء لكي أَرى
ما لا يُرَى
قالوا: تَعَالى الشعرُ عن أَغراضه...
يغتالني النُقّادُ أَحياناً
وأَنجو من قراءتهم،
وأشكرهم على سوء التفاهم
ثم أَبحثُ عن قصيدتيَ الجديدةْ!
وبرغم هذا التحول الكيفي فقد ظل الشعر عند محمود درويش حتى آخر رمق في حياته تركيبا فنيا جماليا كامنا في بنية اللغة ، أما مقاصد الكلام ومقامات الإبلاغ فتأتي في الدرجة الثانية. لأنها جميعا رهينة بشرط المعنى الذي يلازم اللغة .
و اللغة هي مأوى الوجود على حد تعبير فيلسوف الوجود هيدغر.ومن ثم فإن الأدب مؤسسة اجتماعية أداتها اللغة ، والشاعر نفسه هو عضو في مجتمع ومنغمس في وضع اجتماعي معين. ويتلقى نوعا من الاعتراف والتقدير الاجتماعي وفقا لهذا الانتماء .
لذا كانت القصيدة عند الشاعر الفقيد عملا فنيا فرديا واجتماعيا في وقت واحد.
و تنظيما لتجارب لم تقع إلا لهذا الفنان العظيم، لكنها تنتظم في سياق الإطار ذي الأصول الاجتماعية الذي يحمله ويتخذ منه عاملا من عوامل التنظيم. ومن هنا كان على الشاعر أن ينصاع في هذا الصدد لشرطين أساسين متلازمين هما:
- احترام مواضع(مواقع) المقام الأصلي التي ترتهن بها الرؤيا الشعرية .
- الاستمرارية والاستجابة إلى تنامي الرؤيا في انسجام مع امتداد الكينونة ونضوج التجربة الوجودية .
إن إدراك صيرورة التفاعل بين هذين الشرطين يشكل المدخل إلى فهم تحولات اللهجة الشعرية في قصائد الشاعر الأخيرة التي توجتها القصيدة الأخيرة ' لاعب النرد'. ذلك أن الشرط الأول هو المدخل الطبيعي إلى فهم تنامي الحس التراجيدي في هذه القصائد الأخيرة على خلفية من التجربة المأساوية المتأصلة في الرؤيا الشعرية . أما الشرط الثاني فموصول بنضوج الرؤيا،وبالحركة المتسارعة لإيقاع الوجود.
لقد سعى الشاعر محمود درويش في هذه المرحلة التي سبقت وفاته إلى أن يوفق بين هاتين القيمتين الأسلوبيتين ، في توازن تلقائي اقتضته طبيعة مذهبه الشعري الذي يمتاز ضمن مدرسة الحداثة الشعرية العربية ، بوضع القضية الوطنية والقضايا الإنسانية في صلب اللغة وفي مركز التعبير الشعري لا في هامشه . ولعل من أبرز مظاهر هذا التوافق اعتماد الإهاب الرمزي الكثيف ، والاحتفاء بتلوينات الإيقاع الشعري الشفيف. والجامع بينهما على مستوى الأثر القرائي لنصوص هذا الشعر هو التشبع بالقيم الإنسانية المثلى في مستوييها الذهني - الموضوعي المنضبط إلى الأعراف والمقاصد المرجعية ، والوجداني - الباطني المشبع بالحس الجمالي . ويتحصل من ذلك كله أن أداة اللغة هي الضابط الفعلي في تحقيق المقاصد الشعرية . فاللغة محكومة برهان التحول والتجدد ومجانبة النمط والتكرار. ذلك لأن الأدب يجب أن يظل أدبا ، و أن ينطلق في الأساس كتعبيرعن قيمة الجمال . وقد يفلح عبرهذا السبيل في استكناه القيم المعنوية. ولا يكون الأدب كذلك إلا إذا حافظ على الجوهر الذي يميزه عن البحث العلمي أو البحث الأخلاقي. والحقيقة أن قيمة الجمال يجب أن تتقدم في الأثر الأدبي على قيمتي الحق والخير وتحظى بتوجيهما. بحيث إن هاتيتين القيمتين لا تبدوان إلا من خلالها حتى لو كان الأدب أدبا ملتزما، وكان موضوعا في خدمة الجماعة وفي خدمة الإنسانية. وإلى ذلك يذهب سارتر بقوله:' إنني أذكر في الواقع أن الالتزام في ' الأدب الملتزم' لا ينبغي له أن ينسينا الأدب ، وأن ما يشغلنا ينبغي أن يكون في خدمة الأدب بحقنه بدم جديد، تماما كما ينبغي أن يكون في خدمة الجماعة بمحاولة إعطائها الأدب الذي يلائمها. ( سارتر situations gallimar p 309 ). في هذا المنحى الأدبي المتطور تصّعدت الجذور الشعرية في تجربة شاعرنا الكبير، وجعلته يتجاوز سلطة المرجعي وهيمنة القيم المطلقة ويعمل على نفيها بواسطة الجديد الذي يحمل في طياته تشكيلا آخر للبعد الجمالي وتطويرا آخر لسيرورة الوعي الأزلي المهيب. وهكذا يغدو الشعر مهتديا بجمالية الحدس التي تعكس شكلا للحقيقة، ومظهرا من مظاهر الوعي. على نحو ما يلخصه هذا المقطع من نص 'الحياة... حتى آخر قطرة ' :
وإن قيل لي ثانيةً: ستموت اليوم،
فماذا تفعل؟ لن أَحتاج الى مهلة للرد:
إذا غلبني الوَسَنُ نمتُ. وإذا كنتُ
ظمآنَ شربتُ. وإذا كنتُ أكتب، فقد
يعجبني ما أكتب وأتجاهل السؤال. (ديوان: أثر الفراشة)
و قد يتمثل هذا البعد على نحو أجلى وأبلغ أثرا، في نص ' أَثر الفراشة ' الذي استعيرت منه تسمية الديوان، من خلال تداعيات الرمز الشفيف واعتمالات التشخيص اللماح. يقول الشاعر: أَثر الفراشة لا يُرَى
أَثر الفراشة لا يزولُ
هو جاذبيّةُ غامضٍ
يستدرج المعنى، ويرحلُ
حين يتَّضحُ السبيلُ
هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ
أشواقٌ إلى أَعلى
وإشراقٌ جميلُ
هو شامَةٌ في الضوء تومئ
حين يرشدنا الى الكلماتِ
باطننا الدليلُ
هو مثل أُغنية تحاولُ
أن تقول، وتكتفي
بالاقتباس من الظلالِ
ولا تقولُ...
أَثرُ الفراشة لا يُرَى
وينتهي الشاعر في قصيدته الأخيرة ' لاعب النرد' إلى أن يصل الأمر كله بانفلات معنى ثابت للهوية ، وارتهان مستقبل الكينونة بعشوائية الصدف ، كما(لاعب النرد) تتقاذفه ورميته الحظوظ . حيث تغدو الرمية المتجددة عنصرا حاسما في توجيه الهوية عبر مغامرة المجهول الذي يبدو محاطا على غير العادة بسمات تراجيدية تجاهر بضعف الكينونة وهشاشتها، وبتلخيص المسار في ضربة نرد:
أَنا لاعب النَرْدِ ،
أَربح حيناً وأَخسر حيناً
أَنا مثلكمْ
أَو أَقلُّ قليلاً ...
............................
مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم
عند باب الكنيسةْ
ولستُ سوى رمية النرد
ما بين مُفْتَرِسٍ وفريسةْ
.......................
مَنْ أَنا لأقول لكم
ما أقولُ لكم ،
مَنْ أنا ؟
كان يمكن أن لا يحالفني الوحيُ
والوحي حظُّ الوحيدين
' إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ '
على رُقْعَةٍ من ظلامْ
تشعُّ ، وقد لا تشعُّ
فيهوي الكلامْ ...
وكأني بالشاعر عبر هذه الغنائية الموسومة بحس الرثاء ، قد حدس النهايات فتفجرت لديه بوارق السؤال وأعقبتها لجلجة الرعود . وارتفع الشعر عبر هذه الألوان الصاخبة إلى درجات من السمو المطلق الذي يجاوز لعنة المفارقات وخطية الواقع النسبي، إلى دوائر التاريخ ومطلقات الوجود.
كاتب من المغرب

0 Comments: